رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

كيف نرى الوجود؟

عندما تجلس في غرفة مظلمة لا يوجد بها سوى شمعة مشتعلة، ماذا سترى؟ سترى بلا شك ضوء الشمعة وهو يتراقص أمامك ويضيء ما حوله.. ولكن، هل سألت نفسك يوما كيف ترى الشمعة، نحن نعلم ان حاسة البصر هي التي تنقل الصور والاشكال والألوان والحركات عبر العين الى الدماغ، وبالتالي تتحقق الرؤية، فالعين تلتقط الضوء القادم اليها من العالم الخارجي لتنعكس صورة ذلك الشيء المنظور على الشبكية التي تقوم بدورها بنقل تلك الصورة الى الدماغ، هكذا يمكن تبسيط العملية، الا ان المثير في الموضوع هنا هو أن الشمعة وشكلها وضوءها الذي يتراقص امام عينيك لم ينفذ أي من تلك الأشياء إلى داخل دماغك البتة!. فالدماغ سيبقى دائماً صندوقاً مظلماً محكم الاغلاق لا ينفذ اليه الضوء ويعيش في ظلام دامس!، إذاً كيف لنا أن نرى هذا الشيء او ذاك؟ في الواقع، فإن ما يحدث هو ان العين وعبر آلية الابصار تستقبل الاشارات الكهروضوئية فتقوم بتحويلها الى إشارات عصبية، فتنقلها الى الدماغ كـ"معطيات" فيقوم الدماغ بدوره "بتفسيرها" فيصور لك شكل ذلك الشيء المنظور الذي تبصره. والسؤال هنا.. هل ما نراه في ادمغتنا مصدره الخارج، ام الداخل؟ وهل يتحقق الوجود الخارجي بنفس الماهية المنطبعة في الدماغ؟ بل هل يتحقق وجود الشيء خارج الدماغ اساسا؟ والى اي درجة من التحقق والتطابق يتم ذلك، وإذا كانت الأشياء مصدرها الدماغ نفسه، فمن أين أتى هذا الأخير بتلك الصورة او ذلك الشكل؟ هل اختلقها دون وجود حقيقي لها، ام هي عملية تفسير لشيء أو ماهية أخرى؟ وما ذلك الشيء تحديداً؟. شكلت تلك الاسئلة منذ القدم "وما زالت" تحديا على المستوى الفلسفي والعلمي والمعرفي، وقد افترض الفيلسوف أفلاطون، في محاولته لفهم الوجود، أن ما نختبره من عالم خارجي ليس سوى صورة مستنسخة وقاصرة عما اسماه "عالم المثل"، وهو يعتقد ان تلك النسخة تعد نسخة قاصرة وغير كاملة لذلك العالم المثالي. ان عالم المثل عند افلاطون يتمثل في كونه عالم الأفكار والحقائق الجلية التي لا نرى منها في عالمنا المادي سوى صور مشوهة لحقيقتها، اما ذلك العالم "عالم المثل" او "عالم الأفكار" ففيه يكمن الوجود الحقيقي لما نشاهده من أشياء عبر حواسنا، وعليه فإن الفلسفة الافلاطونية لا تقيم وزنا للحواس في عملية إدراك العالم وإدراك الحقائق لأنها قاصرة عن ذلك، وترى ان الانسان يمكنه الوصول الى معرفة الاشياء وحقائق الأمور عبر استخدامه للحواس بجانب التفكر والتأمل. إذاً فالفلسفة المثالية ترى ان المادة هي نتاج الفكر والعقل، وان المعرفة موجودة ومتسامية ومنفصلة عن العالم المحسوس، كما انها تؤمن بتسامي العقل على المادة من حيث ان الأخيرة ما هي الا نتاج للأولى، وللتبسيط، فإن ذلك يعني ان الأشياء التي نراها حولنا وما يحيط بنا من محسوسات تشكل الوجود المادي، ما هي سوى صور لما هو موجود في الدماغ وبالتالي فهي أشياء غير متحققة موضوعيا بشكل منفصل عن الوعي والعقل. وعلى نقيض المثالية، تقع المادية ففي حين ترى المثالية مركزية الفكر والعقل وثانوية المادة، ترى الفلسفة المادية اسبقية المادة على الفكر والوعي، وتعتقد ان المادة موجودة وجودا حقيقيا بشكل منفصل عن وعينا، وان الوعي والعقل ما هو الا انعكاس للوجود المادي، وهو نتيجة لتفاعلات الكيمياء الحيوية في الدماغ. وبين الفلسفتين السابقتين يمكننا وضع الواقعية في المنتصف، والتي ترى ان الوجود المادي منفصل عن الادراك والوعي، وأن جهود فهم هذا الوجود والواقع تبقى في إطار المحاولات سعياً لمعرفة حقيقته، كما ترى أن "الحقيقة تتشكل في تطابق العقل مع الواقع"، وأن كل ملاحظة جديدة تقربنا أكثر لفهم الواقع. هناك الكثير من المقاربات والفلسفات التي تحاول فهم الواقع وتطرح أسئلة كبيرة حول الوجود المادي خارج الدماغ، وشكله ودرجة تحققه، والأهم من ذلك أنها تطرح سؤالاً عن مدى قدرتنا على إدراك هذا الواقع المادي او بمعنى آخر قدرتنا على الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بماهية الأشياء وحقيقتها. ان هذا العرض المبسط وربما المخل، يخرجنا من البديهية والاطمئنان الى متعة التساؤل والتفكر، ويطرح أسئلة جوهرية عن الوجود المحيط بنا، وعن ماهيته وكيفية شكله، ولماذا نفترض ان ما نراه "بأعيننا" هو الواقع الحقيقي، وما الحقيقية أصلا وهل يمكننا ادراكها؟ كيف نرى الألوان والاشكال؟ وهل نحن جميعاً نرى الألوان بشكل متشابه؟ واذا كانت الاجابة "لا" كيف نستطيع شرح ذلك للآخر او اثباته؟ وهل اللغة أساسا قادرة على توصيف الواقع والوجود؟ والأهم من هذا وذاك هل يعد الواقع المادي الذي نراه مجرد "صورة" كالصور التي نراها على أجهزة الحواسيب والتي يتم انتاجها عبر الخوارزميات والأرقام؟ وما الشيء او المعطى الذي يختبئ خلف الوجود المادي؟. اسئلة كثير وكبيرة لا حصر لها تتقافز الى الذهن عند التفكر والتأمل في حقيقة الوجود، وعلامات الاستفهام التي تطرحها هذه القضية تخفي وراءها اسئلة أكبر وتشمل حقولاً معرفية اكثر، وتزعزع ثقتنا بالحقائق النسبية التي قد نتمسك بها ونركن اليها، واذا كان الوجود "الجلي" كما نراه بوضوح يطرح كل هذه التساؤلات المحيرة، فلا بد ان يتولد إشكال يتعلق بحقيقة الأفكار وماهيتها وما هو النسبي وما هو المطلق؟ وهل نمتلك القدرة على إدراك الحقائق؟ ناهيك عن التمسك بها والتعصب لها!. ان هذه الأسئلة المؤرقة التي تتطرق للوجود لابد انها ستمتحن الفكر أيضاً، وستعرج على مسألة جدوى التمسك بآرائنا والتعصب لها ورفض الآراء المخالفة، وستبين لنا هشاشة الفكر الانساني وعلاقته المتزعزعة بمحيطه، وستثبت لنا ان معرفتنا ما هي الا معرفة نسبية بل وقاصرة. وفي الختام لابد ان ابين ان هذا المقال لا يُتوقع أو يُنتظر منه أن يقدم إجابة على سؤال الوجود، وليس هذا مراده، بل يكفي ان يبين ان هناك سؤالا يتعلق بحقيقة وماهية الوجود أساسا، وكيف نرى هذا الوجود؟ ويثبت قصور ادراكنا ووعينا ومدى تواضعه في معرفة الحقائق والنسبية التي تغلف احكامنا، وهنا أستذكر بيتاً للشاعر إيليا أبوماضي الذي قال فيه: أيهذا الشاكي وما بك داء.. كن جميلا تر الوجود جميلا.

5626

| 04 مارس 2021

حدود المعرفة وحواجز الوعي

أعلنت وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" يوم الخميس الماضي عن نجاح هبوط مركبتها "برسيفيرنس" على سطح كوكب المريخ بعد رحلة استغرقت سبعة أشهر، بهدف استكشاف الكوكب والبحث عن حياة سابقة عليه. ورغم أن نوع الحياة التي تسعى هذه الرحلة للبحث عن آثارها بحسب ناسا هي حياة ميكروبية قديمة ربما وجدت قبل سنوات طويلة، الا ان المخيلة البشرية لطالما كانت مفتونة بمسألة البحث عن وجود حياة عاقلة و"واعية" خارج كوكبنا الأزرق، ولطالما راودها سؤال ملح حول وجود حياة عاقلة وحضارات ذكية في المجرات البعيدة. وعلى كُلٍ، لا يقتصر هذا الهاجس على المخيلة الشعبية وأفلام الخيال العلمي والفانتازيا الأدبية وحسب، بل ان قضية وجود حيوات عاقلة خارج كوكبنا الصغير تعد قضية جوهرية مطروحة على طاولة البحث العلمي، وتشغل حيزا مهما في علوم الفضاء ومساعي البحث العلمي، ومع الاقرار بعدم وجود دليل يسندها حتى الآن، فإن الحال كذلك بالنسبة لنقضها، حيث لا يوجد دليل يفند أو يدحض فرضية وجود حياة في مجرات الكون الفسيح، وهو ما يترك الباب مفتوحاً امام مساعي البحث عنها. تمثل المعرفة البشرية المعضلة الكبرى التي تواجه العقل الإنساني، من حيث ان تقدم تلك المعرفة وتطورها وتشعبها، أوهم الانسان انه بلغ مبلغاً من العلم تكشفت معه كافة أسرار الكون الذي يحيطه، وأصبح معها ملماً بخوافيه ولم يعد بحاجة لزيادة رصيده من المعرفة والبحث، وللدقة هنا، فإن هذه المعضلة تواجه الانسان من غير العلماء والباحثين الذين يدركون جلياً انهم رغم التقدم الذي يحققونه فهم ما زالوا في بداية الطريق، وان كل كشف علمي مبين يبرز لهم ضآلة معرفتهم ويكشف لهم ان ما يخفيه عنهم العالم أكبر واكثر تعقيداً. من أبرز المسائل وأكثرها أهمية وحساسية في حقل البحث العلمي، المسألة المتعلقة بحدود المعرفة او ما يعرف "بنظرية المعرفة" وهي النظرية التي تطرح سؤالاً جوهريا مؤرقاً وهو "كيف نعلم أننا نعلم؟"، وهل المعرفة ممكنة أم لا؟ فالعقل الانساني ومع الاعتراف بمحدوديته وضآلته أمام تعقيد الكون، فإنه يبقى وسيلتنا الوحيدة نحو سبر أغوار المعرفة، والتحدي الأكبر الذي يواجه العقل الانساني في عصرنا الراهن يتمثل في أن المعرفة لم تعد حكراً على الراسخين في العلم وحسب، بل انها أصبحت بفضل التقدم الذي نعيشه حقاً ينهل منه الجميع ويشكل توجهاتهم ويبلور تصوراتهم دون شرط او قيد ودون إلزام بامتلاك منهجية علمية لتحقيق تلك المعرفة، وهو ما اوقع انسان العصر الحديث في معضلة كبيرة تتعلق بتوهم المعرفة. تترتب على تلك المعضلة عدة سلبيات ليس اقلها اساءة استخدام المعرفة والتطور والتسلح النووي، وصولاً الى تمويل الابحاث العلمية ودعمها، وعدم وضع بعض الحقول المعرفية موضع الأهمية الذي تستحقها، وبالنظر الى تاريخنا المعرفي والتراكم المتسارع للمعارف خلال السنوات الأخيرة وبمقارنة تلك المسيرة مع ما وصلنا اليه اليوم من التقدم سندرك حتماً مدى تواضع معارفنا في السابق ومدى زهو اسلافنا بما حققوه في حينها من تقدم، ظناً منهم انهم بلغوا من العلم والمعرفة ما لا يحتاجون معه لزيادة رصيدهم منه، والسؤال هنا هو ما لذي يجعلنا نظن اننا تجاوزنا هذه المرحلة من البدائية من المعرفة، خصوصا واننا لم نتمكن بعد من كشف اصغر اسرار العالم ولم نتمكن حتى الآن من ادراك ابرز ما يميزنا؟!. يعد الوعي "Consciousness" ودرجته عند الانسان هو ما يميزه عن باقي المخلوقات التي تشاركه هذا العالم، الا ان هذا الوعي يعد السر الاكبر واللغز الأعظم، فالعلم لم يتمكن حتى الآن من فك شيفرة هذا اللغز المحير، من حيث ماهيته؟ واين يتمركز وكيف يعمل، وما هي الحدود التي تفصل الوعي الانساني عن الوعي الذي تمتلكه باقي المخلوقات، فالوعي عند الحيوانات يواجه صعوبة في توصيفه لا تقل عن الصعوبة التي تواجهنا عند توصيف الوعي الانساني، فالحيوان يفتقر للغة الانسانية التي تمكنه من اخبارنا عن تجاربه واحاسيسه، الا انه بلا شك يمتلك درجة من الوعي تمكنه من ان يكون ما هو عليه. ولكشف تواضعنا المعرفي يمكننا تأمل الحواجز التي تفصل الوعي الانساني عن الوعي لدى الحيوانات، فالملاحظ على الحيوانات وخصوصا الأليفة منها قدرتها على التعلم والتفاعل مع الانسان، فالقط الذي يجول في ارجاء المنزل يمكنه تعلم كثير من الامور ومعرفة افراد الاسرة ومواعيد طعامه، كما انه يظهر الكثير من ردود الافعال الذكية، ومع ذلك فحدود وعيه تصطدم بحاجز سميك يستحيل اجتيازه، فالقط في هذا المثال ومهما طال مكوثه مع الانسان فإنه يقف عاجزا امام فهم العلاقات الاسرية والمعتقدات التي يحملها الاشخاص وهو على كل حال لن يكون قلقاً حيال مستقبله. لقد قام كثير من العلماء بإجراء التجارب على الحيوانات بهدف تعليمها واكسابها المهارات، وقد اثبتت تلك التجارب ان بعض انواع الحيوانات قادرة على تعلم بعض المهارات البسيطة ويمكنها حل بعض المشكلات، الا ان تلك القدرة تبقى ضمن حاجز لا يمكن تخطيه مهما بلغ ذكاء ذلك الحيوان، ربما يبدو هذا امرا بديهيا ومن السذاجة ايراد مثال كهذا، الا ان ذلك ينبئنا بمحدودية وعينا وادراكنا نحن ايضا، ويطرح سؤالا مهما عن حدود معرفتنا، وعن اشكال الوعي من حولنا، وعوداً على ما بدأنا به المقال حول جهود البحث عن حياة خارج كوكبنا أو مجرتنا سواء أكانت حياة ذكية ام بدائية، يتبادر الى الذهن سؤال ملح يتعلق بتصوراتنا وافتراضاتنا المبنية على معطياتنا العقلية والحسية، وجدوى البحث عن حياة قائمة على الكربون حصراً، والافتراض بأن وعينا المحدود قادر على ادراك جميع ما يحيط به. وأمام ذلك، يتحتم علينا أن نعي موقعنا من الاعراب في هذا الكون الفسيح، وان نقر أن كل قفزة معرفية نحققها او كشف علمي ننجزه يعظم من مساحة الجهل الذي يواجه الانسان، ويزيد الغموض الذي يحيط ادراكه، وعليه، فلا خيار امامنا من ان نتواضع معرفياً وان نقر بأن جميع معارفنا وعلومنا على ازدهارها، هي في واقع الامر ليست سوى رأس الجبل الجليدي الذي يخفي المحيط جزأه الاكبر، وان ما نبحث عنه في الكواكب البعيدة ربما يعيش بقربنا ولكنه في بعد آخر قد نتأخر في اختراق حواجزه او كشف استاره.

2737

| 25 فبراير 2021

العملات الرقمية بين واقع مشرق ومستقبل مشفّر

اكتسبت العملات الرقمية خلال الفترة الأخيرة زخماً كبيراً، إلى درجة أن كثيراً من صغار وكبار المستثمرين لجأوا إلى سوق العملات الناشئ والمشرق كما يراه مرتادوه، عبر ضخ مبالغ طائلة استشرافاً لمستقبله الواعد، فقد أعلنت شركة "تيسلا" الأمريكية مؤخراً عن استثمارها لمبلغ مليار ونصف المليار دولار أمريكي في عملة البيتكوين، وعزمها قبول العملة للحصول على منتجاتها، ما أدى إلى ارتفاع تاريخي لسعر البيتكوين لامس سقف الخمسين ألف دولار. من جانبها أعلنت السلطات الكندية عن موافقتها على إطلاق أول صندوق استثماري للبيتكوين في البورصة على مستوى العالم، كما أعلن مؤسس شركة تويتر جاك دورسي عن عزمه إنشاء مؤسسة تعمل على تمكين البيتكوين لتصبح عملة الإنترنت المعتمدة. ولكن ما العملات الرقمية أو العملات المشفرة كما يسميها البعض؟، بدأت قصة العملات الرقمية بإطلاق عملة البيتكوين في عام 2009 من قبل شخص مجهول يدعى "ساتوشي ناكاموتو"، ولم تكن قيمتها في ذلك الوقت تساوي شيئاً، فقد كان سعر البيتكوين حينها 0.001 دولار، وفي فبراير من عام 2011 بلغت قيمة العملة دولارا واحدا، ويتوقع بعض الاقتصاديين أن يرتفع سعر البيتكوين ليصل إلى مستويات قياسية قد تبلغ مليون دولار للبيتكوين الواحدة! كونها أصبحت تمتلك عوامل الندرة والموثوقية والطلب المتزايد شأنها في ذلك شأن الذهب، وعليه وبحسب ما يرى خبراء فإن البيتكوين تمثل مخزناً مأموناً للثروة. وأمام النجاح الذي تحققه البيتكوين حتى الآن على الأقل، تم إصدار العديد من العملات المشفرة على غرار البيتكوين وأصبحت هناك منصات عديدة لتداول هذه العملات، وقد تجاوز حجم سوق العملات الرقمية مؤخراً حاجز التريليون دولار!، ومع ذلك لا تزال وجهات النظر تتباين عند تقييم هذا السوق الضخم وتوقع مستقبله بين متفائل ومتشائم، حيث يرى المتشائمون لهذا السوق بأنه ليس سوى فقاعة ستنفجر يوماً في وجوهنا، وأنه سوق محفوف بالمخاطر وغير مأمون الجانب بسبب لا مركزية العملات الرقمية واعتمادها الكلي على التكنولوجيا، في حين يرى المتفائلون أن هذه العوامل تشكل مصدر قوة للعملات الرقمية وستكون بفضل ذلك عملات المستقبل، وحجتهم في ذلك أن التكنولوجيات سواءً تلك التي تعتمد عليها العملات الرقمية، أو التكنولوجيا في صورتها الشاملة ما هي إلا أمر واقع تعتمد عليه حياتنا ويتوقف عليه مستقبلنا. تتميز العملات المشفرة باللامركزية مع إمكانية نقل العملة من طرف إلى آخر دون الحاجة لوجود وسيط بينهما، "كالبنوك أو المؤسسات المالية" عبر استخدام ما يعرف "بالبلوك تشين Blockchain"، وهي تقنية ثورية يمكن تلخيصها بأنها سلسلة لا مركزية من السجلات الموجودة في حواسيب متعددة حول العالم تقوم بحفظ بيانات العملة والعمليات المرتبطة بها وكافة المتغيرات عليها، حيث يمكن الاطلاع عليها من قبل عدد كبير من الأشخاص دون إمكانية معرفة مالك العملة تحديداً، حيث توفر هذه العملية حماية كبيرة يصعب بل يستحيل اختراقها أو تزويرها. ينطوي على هذه التقنية جانبان أولهما أن هذه الآلية تمثل أفقاً واعداً يعول عليه كثيرون بأن يتم تسخيره واستخدامه مستقبلاً في توثيق أمور عديدة من العقود الرسمية إلى الملكيات الخاصة بحيث تكون الضمانات للملكيات مرتبطة بتلك السلسلة اللامركزية عبر وجود ما يشبه "الإجماع العام" يقر بالعمليات التي تتم في هذا الإطار، وهو الأمر الذي يعد خارجا عن سيطرة أي سلطة مركزية أو دولة، أما الجانب الآخر فيتمثل في امكانية استخدام العملات الإلكترونية وما توفره لها تقنية البلوك تشين من خصوصية في عمليات تمويل الإرهاب والنشاطات غير القانونية، "وهو ما يثير قلقاً كبيراً لدى كثير من السلطات الرسمية حول العالم"، إلا أن التحفظ المتعلق بالنشاط الإجرامي وغير القانوني الذي سيترتب على استخدام العملات الإلكترونية لا يمكن أن يكون حائلاً دون النظر لها بشكل أكثر جدية بل إنه يتطلب التعامل معها بعقلانية وموضوعية. في بداية ظهور العملة المشفرة كان يتم النظر لها بعين الريبة والحذر اعتقاداً بأنها مجرد عملة مبنية على الوهم وستزول لا محالة، وعلى أن هذه النظرة لا تزال راسخة لدى كثيرين في عالمنا العربي خصوصاً، نجد أن العملات المذكورة تجاوزت هذه الهواجس ويمكننا القول إنها أصبحت أمراً واقعاً لا يمكن تجاهله، فدولة كالصين مثلاً، تعاملت مع العملات الرقمية في البداية بتحفظ وريبة، ثم ما لبثت أن أدركت مستقبل هذه العملات، وها هي الآن تعمل على إصدار عملة رقمية خاصة بها، استدراكاً منها للتموضع على طريق المستقبل، فضلا عن ذلك فإن كثيراً من الشركات المالية الكبيرة مثل "باي بال" "وفيزا" و"ماستر كارد" عملت على استيعاب العملات الرقمية وأدرجتها ضمن عملياتها المالية، ناهيك عن شركات عملاقة مثل "آبل" و"قوقل" وغيرها والتي أدخلت تلك العملات ضمن أنشطتها واهتمامها، بجانب ذلك فإن هناك ما يشير إلى استثمار بعض الدول في العملات الرقمية دون التصريح بذلك. من جهة أخرى لا يمكننا النظر للعملات الرقمية التي انطلقت شراراتها بإطلاق عملة البيتكوين، بشكل سطحي، والتسليم بأن مؤسسها شخص مجهول دون التشكك في وجود مؤسسات مالية دولية وعالمية تقف خلف إنشائها، وقد تكون العملات الرقمية ما هي إلا نظام عالمي جديد ينسخ النظام القائم ويحل محله، فالعملات الرقمية ستعمل بلا شك على تمهيد الطريق أمام العولمة المتجذرة أساساً بأجلى صورها في واقعنا المعاش، وستحول العالم من قرية صغيرة متصلة بالإنترنت اللامركزي إلى قرية أصغر تتجاوز كافة أشكال المركزية، والسؤال هنا يتعلق بمدى مشروعية الهواجس التي تغلف تعاطي الدول مع هذه الظاهرة، وهل يمكن للدول التعامل مع هذا الواقع المثير للقلق عبر الصدام معه، أم أن هناك إمكانية لاستيعابه على الرغم من أنه يعمل على إلغاء مركزية النظام المالي للدول ويعمل على إضعاف دور البنوك المحلية والمركزية عبر إلغاء الوسيط الثالث؟. وعلى كل لا يمكننا الجزم بمستقبل العملات الرقمية، وفي ذات الوقت ينبغي لنا عدم النظر لواقع تلك العملات كمجرد فقاعة ستنتهي لا محالة بهجمة سيبرانية جانحة، فواقع العملات الرقمية يثبت أنها تجاوزت هذا المنعطف بكل تأكيد، في المقابل ينبغي عدم التقليل من هواجس الدول والحكومات حيال انتشار العملات الرقمية اللامركزية، فبحسب دراسة أجرتها مؤسسة "راند" الأمريكية، تحت عنوان "تداعيات العملة الافتراضية على الأمن القومي: البحث في إمكانية النشر من جهة فاعلة غير حكومية"، خلصت تلك الدراسة إلى أن استخدام العملات الرقمية من قبل منظمات متمردة يواجه تحدياً في الوقت الراهن وقد لا يكون الخيار الأمثل لتنفيذ أنشطتها، إلا أنه سيكون كذلك في المستقبل، ومن جهة أخرى يأتي سؤال ملح حول كفاية الآليات الحالية في مواجهة واقع العملات الرقمية وهل ينبغي استيعاب هذا الواقع عبر سن التشريعات القانونية ووضع الآليات التنظيمية وتقنينه والتسليم بوجوده، وأن تسعى الدول إلى أن تتبوأ موقعاً مهماً في هذا الطوفان الجارف وعدم ترك الفرصة لتفوت، أم يكفي اتخاذ موقف الإنكار دون وضع آليات واضحة لتكييف الوضع القانوني للمتعاملين بتلك العملات؟ والمضي قدماً في التعامل بحذر وتوجس مع واقع هذه العملات المشفر والغامض؟.

3720

| 18 فبراير 2021

(الأتمتة) ومستقبل الإنسان

يمثل عصرنا الحالي الذي نعيشه عصر التقدم التكنولوجي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فقد شهد العالم خلال العصر الحديث نقلات نوعية كبيرة بفضل التكنولوجيا الحديثة وتطبيقاتها. نقلات لم يكن الإنسان ليتصورها خلال مراحل حياته السابقة على هذا العصر، وبعقد مقارنة سريعة بين تصورات الإنسان في الأزمان الغابرة وما آلت إليه حياته الآن، يمكننا تلمس الإخفاق في استشراف مستقبل العصر الحديث، ولا تزال تصوراتنا قاصرة عن إدراك المستقبل قياساً على الحاضر، لا سيما وأن التكنولوجيا لا تزال تحقق قفزات هائلة قد نعجز معها عن تصور ما ستؤول إليه الأمور مستقبلاً. من القضايا التي أفرزتها التكنولوجيا الحديثة خلال العصر الصناعي قضية "الأتمتة" والتي تُعرّف بأنها عملية استبدال العمل البشري وإحلال الآلة عوضاً عنه، وهو ما شهد زيادة مضطردة خلال السنوات الأخيرة، فلم يعد الإنسان كما في السابق عنصراً محورياً في عملية الإنتاج، فقد حلت الآلة مكان العمل البشري واقتصر دور الإنسان على برمجتها ومراقبتها والإشراف عليها. وبالنظر لما تقدمه لنا الأتمتة من مزايا كبيرة كمضاعفة الإنتاج وتقليل الجهد وتحقيق الدقة وتقليص التكفلة، ينبغي علينا أن لا نغفل عن الجوانب السلبية لتلك القضية ونهملها. تشير التقديرات إلى أن انتشار الأتمتة وإحلال الآلة مكان العمل البشري وتقسيم الأدوار بين الآلة والإنسان، سيؤديان إلى زوال نحو 85 مليون وظيفة بحلول عام 2025، وهو الأمر الذي يطرح قضية البطالة في صدارة القضايا المؤرقة مع ما يرافقها من إشكالات اجتماعية وأمنية وتنموية ملحة، كما تطرح تلك القضية سؤالاً جوهريا حول أولويات التقدم التكنولوجي وأهدافه على المدى البعيد وعن مدى استعداد المجتمعات الإنسانية لسيطرة الآلة على كافة مفاصل عملية الإنتاج. وقد كشف تقرير صادر عن معهد ماكينزي العالمي أن الأتمتة سوف تتطلب أن يغير مابين 3 الى 13% من عمال العالم " بحسب مستوى التنمية في البلد" مهنهم أو أن يقوموا بترقية مهاراتهم بحلول عام 2030. وبالنظر للخطط الاستراتيجية للتنمية التي تضعها الدول، نجد أن خطط تأهيل الكادر البشري فيها تصاغ في غالبها وفق تصورات آنيّة دون الأخذ بالاعتبار القفزات الصادمة وغير المتوقعة التي تحققها التكنولوجيا يومياً، الأمر الذي يولد إشكالية تتمثل في جدوى آليات التخطيط الوظيفي ونوعية التخصصات الأكاديمية المبنية على حاجة سوق العمل، وبرامج التأهيل المهني ومدى صمود تلك البرامج ومسايرتها واستيعابها لمستقبل الأتمتة. من جهة أخرى لا بد لنا من التعريج على جانب آخر من هذه القضية والمتعلق بالملكات التي يتفوق بها الإنسان على الآلة والمتمثلة في "الوعي" وما يرتبط به من مشاعر وإدراك للذات والقدرة على الإحساس والتعاطف، وأهمية إعادة النظر في أولويات التحصيل الأكاديمي المبني على احتياجات سوق العمل، فمتطلبات التنمية تركز في الوقت الراهن وبإفراط على تدريس المعارف التي يتطلبها اقتصاد السوق وآلته الإنتاجية وبما يضمن استمرار عجلة التقدم في الدوران، مع إغفال كبير للجوانب الفكرية والعقلية ودراسة المنطق والفلسفة والفنون والعلوم الاجتماعية عموماً. وفي الغالب يعزى ذلك الإهمال إلى أن تلك المجالات غير ذات مردود مادي، أو انها ذات إسهام متواضع في مساعي التنمية، إلا أنه وكما أشرنا آنفاً فإن رهان المستقبل متوقف على تلك المجالات والحقول الأكاديمية تحديدا التي يتفوق بها الإنسان على غريمته "الآلة". إن مستقبل الأتمتة يطرح أسئلة كثيرة وكبيرة وإشكاليات أخلاقية تزعج راحتنا وتزعزع أركان الاستقرار الذي وفرته لنا، ومن تلك الإشكاليات قضية الانحياز للآلة أو مايدعى "Automation bias"، والمتمثل في ميل الإنسان لاتخاذ القرارات وترجيح الاقتراحات التي تقدمها له أنظمة صنع القرار الآلية وتجاهل المعلومات التي تناقض اقتراحات تلك الأنظمة حتى وإن كانت صحيحة. بمعنى أن الدقة التي توفرها لنا الآلة والتكنولوجيا جعلت منا أسرى لها وبذلك تخلينا عن ملكة النقد أمام هيمنة الآلات، وهي إشكالية يطلق عليها " إساءة استخدام الأتمتة" والتي قد تؤدي بنا في نهاية المطاف إلى عواقب وخيمة لا تحمد نتائجها. تمثل تلك القضية تحديداً فضلاً عن قضية تنامي الاعتماد على التكنولوجيا بوجه عام، بدءًا بحفظ أرقام الهواتف إلى القيادة الآلية للطائرات، تحديا كبيراً وتضعنا في مواجهة أسئلة وجودية كبرى تتعلق بتطور العقل البشري، الذي استطاع خلال مسيرته المضنية أن يحقق قفزات هائلة بسبب التحديات التي واجهها والمشكلات التي تطلبت منه إعمالا للملكات العقلية، فتمكن من صنع الأدوات وابتكر الحلول التي حققت للبشرية قفزات كبيرة، إلا أن التكنولوجيا الحديثة، أسهمت بشكل أو بآخر في تعطيل تلك الملكات، فالعقل عندما يستخدم وسائل تكنولوجية هو غير معني بكيفية عملها، ثم تغنيه تلك الوسائل عن إعمال ملكاته في مسائل عديدة سيؤدي ذلك لا محالة إلى اضمحلال تلك الملكات وقد تترتب على تلك المعضلة سلبيات تنسحب على الجنس البشري برمته. ويحق لنا هنا التخوف كذلك من السلبيات التي ستنعكس على عقول الأطفال تحديداً عندما يستخدمون وسائل التكنولوجيا، فبحسب ما توصل له علم الأعصاب فإن للتذكر دورا محوريا في تشكيل بنية الدماغ وإنشاء الروابط العصبية داخل تلك البنية، كما أن التذكر يعد ركيزة أساسية للعملية التعليمية والنمو لدى الطفل وبناءً على ذلك يكون التخوف من سلبيات التكنولوجيا الحديثة امرا مشروعا ومطروحا بلا شك. إن الجوانب الغامضة التي تكتنف مستقبل الأتمتة كثيرة ولا يسعنا معالجتها بإسهاب في هذا المقال، في الوقت ذاته لايمكننا غض الطرف كليا عنها. عندما تسهم الأتمتة في زيادة الإنتاج وتقليص التكلفة سيؤدي ذلك لا محالة إلى توفير السلع والخدمات بأسعار زهيدة، ولكننا قد نفاجأ بأن غالبية الناس لا تستطيع اقتناء تلك المنتجات بسبب ارتفاع معدلات البطالة وتقليص الوظائف والاستغناء عن العنصر البشري، وهو الوجه الآخر للأتمتة، كما أننا لا نعلم "كما أشرنا سابقا" أي منحى سيسلك مستقبل التكنولوجيا وإلى أي مدى ستسيطر فيه الآلة على البشر، سواء كانت تلك السيطرة كما تصورها لنا أفلام الخيال العلمي عبر امتلاك الآلة للوعي وتمردها على الإنسان! " وهناك من العلماء من أبدى قلقه من هذا السيناريو" أو عبر ما يطلق عليه الانحياز للآلة وسيطرة القرار التقني وسطوته على القرار البشري. تلك التساؤلات تطلق العنان للخيال ليتصور شكل المستقبل.. فهل سيعيش الإنسان بفضل التكنولوجيا وحلولها محل الإنسان حياة رغيدة يسخّر فيها الجنس البشري الآلات لخدمته وتتغير موازين عجلة التنمية فلا يحتاج إنسان المستقبل للعمل من الأساس وسيكتفي بالخدمات الجليلة التي ستقدمها له التكنولوجيا، بينما يتفرغ هو للتأمل والاهتمام بالفنون والتفكر فيما حوله، أم أن المستقبل أقل إشراقا وربما تنقسم مجتمعات المستقبل إلى طبقات يسيطر فيها أصحاب رؤوس الأموال بمساعدة الآلات على الطبقات الأضعف، ولكن كيف ستكون تلك السيطرة وهم ليسوا في حاجة للعمال أساسا؟ هل ستخلق حاجات جديدة؟ أم سيكون هناك نوع جديد من البطالة المقنعة يتقاضى في ظلها الناس رواتب زهيدة دون مقابل من العمل ليدعموا فقط مسيرة الإنتاج المؤتمتة بالكامل ويشترون إنتاجها الزهيد واللا إنساني؟ فضلا عما سبق فإنه من الضرورة بمكان إعادة النظر في أهداف التنمية بعيدة المدى، وتخطيط الموارد البشرية ووضع أهدافها وفق نظرة بعيدة تأخذ بعين الاعتبار سيطرة الآلة وتمكنها من كافة مناحي الحياة. فوفقاً لقانون مور، "وهو القانون الذي وضعه غوردون مور أحد مؤسسي شركة (إنتل) في عام 1965، بعد أن لاحظ أن عدد الترانزستورات على شريح المعالج يتضاعف كل عامين دون أن يطرأ على سعر الشريحة أي تغيير"، فإن التكنولوجيا الحديثة وقدرة الحواسيب تشهد تضاعفا أسياً كل عامين!! ولنا أن نتخيل القدرة الفائقة لمستقبل تلك التكنولوجيا، فهل نحن مستعدون لذلك اليوم؟، وهل التخصصات الأكاديمية والتأهيل التقني والتدريب المهني المرسوم للمستقبل لرفد سوق العمل بالطاقات البشرية المؤهلة سيكون له موقع من الإعراب، وهل سنفاجأ عندما تلغي الأتمتة الحاجة لكثير من تلك التخصصات والمجالات المهنية؟ وهل سيأتي علينا يوم ستقول لنا الآلة عندما نحصل على مؤهلنا الأكاديمي" أنقعه واشرب ماءه".

3548

| 04 فبراير 2021

ومضات مظلمة من إشراقة الغرب

تحتل فكرة مركزية الحضارة الغربية موقع الصدارة خلال التاريخ الحديث والمعاصر، مسبغة على العالم رؤية أحادية غير قابلة للتغير والنقض على المستوى المنظور، وحتى مع التبدلات التي تطال تلك البنية المتماسكة أيدلوجية كانت أو فكرية أو اقتصادية أو سياسية، تبقى قواعد تلك المركزية ثابتة غير قابلة للتراجع، وفي هذا السياق يرى الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه (الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان)، "أن الانسان الغربي عوضاً من أن يضع الجنس البشري في مركز الكون وضع الجنس الأبيض في هذا المركز، ووضع بقية البشر مع الطبيعة/المادة في الهامش، وبدلا من أن يكون الهدف من الوجود في الكون هو تحقيق مصلحة الإنسان، أصبح الهدف هو تحقيق مصلحة الإنسان الأبيض، وبدلا من الإيمان بأسبقية الإنسان على الطبيعة أصبحت المسألة هي أسبقية الإنسان الأبيض على الطبيعة وبقية البشر". ويمكن توصيف تلك الصورة بالقول بأنها ليست إفرازاً للتفوق الحضاري الأوروبي ومنجزاته وحسب، بل أنها مرتبطة بنظرة متعالية مستمدة من شرعية ماورائية وأفضلية عرقية. تتمحور هذه النزعة الأوروبية في كثير من المجالات، انطلاقاً من الماضي وصولاً إلى الحاضر، وقد تركزت عبر التاريخ، في النشاط الاستعماري الأوروبي تحديداً، ففي الوقت الذي وطأت فيه قدما المستكشف الإيطالي كريستوفر كولومبوس أراضي القارة الأمريكية، في عام 1498، ظن حينها أنه بلغ شبه القارة الهندية مثبتاً نظرية كروية الأرض وإمكانية الالتفاف عليها عبر الإبحار غرباً، وعلى أن تلك النظرية صحيحة في مجملها، إلا أن جهل الأوروبيين آنذاك بوجود أراضٍ بعيدة في الغرب ونتيجة لسوء فهمهم للجغرافيا حينها، أطلق المستكشفون الأوروبيون على شعوب تلك الأراضي تسمية "الهنود الحمر"، ظناً منهم أنهم بلغوا أراضي شبه القارة الهندية!، والطريف في الموضوع أن التاريخ الذي يدونه المنتصر دائماً اعتبر كولومبوس هو المستكشف الأول للقارة الأمريكية متجاهلاً وجود شعوب فيها اكتشفتها واستعمرتها قبلهم بقرون، حتى جاء الأوروبي بغطرسته وأبادها ودمر تاريخها، وما تزال البقية الباقية من تلك الشعوب تعاني التهميش والازدراء في أراضيها إلى يومنا هذا. بعد تلك الأحداث بسنوات، قرر المستكشف البرتغالي فرناندو ماجلان الالتفاف على الكرة الأرضية عبر الإبحار غرباً، عابراً المحيط الأطلسي وصولا الى المحيط الهادي، لاستكشاف طريق جديد يؤدي إلى آسيا عموماً وإلى جزر التوابل على وجه التحديد، وهي أرخبيل من الجزر تشكل جزءاً من إندونيسيا حالياً، وقد كانت تلك الجزر محكومة من قبل عدد من الملوك ينفرد كل منهم بملكه، وعلى الرغم من نجاح تلك الرحلة في الالتفاف على الكرة الأرضية والعودة إلى أوروبا من جهة الجنوب، إلا أن ماجلان لم يكن على متنها، حيث لقي حتفه في معركة "ماكتان" الشهيرة التي دارت في جزر الفلبين على يد القائد المسلم "لابو لابو"، والذي رفض الانضمام إلى حلف ماجلان واعتناق المسيحية كغيره من ملوك تلك الجزر، واستبسل في مقاومة الغزاة ورفض الاستعمار الأوروبي لبلاده حتى أردى ماجلان قتيلا و رفض تسليم جثته للغزاة المتقهقرين. أما في عام 1497 فقد قرر المستكشف البرتغالي فاسكو دا غاما "الذي لم يكن سوى سفاح دموي"، اكتشاف طريق يؤدي إلى الهند دون المرور بطرق التجارة المعتادة التي تربط أوروبا بشبه القارة الهندية، والتي كانت تقع ضمن نطاق الأراضي التي يسيطر عليها العرب، وفي ذلك العام بدأ رحلته في محاولة للالتفاف حول رأس الرجاء الصالح وتجنب الأراضي العربية، واكتشاف طريق جديد يوصله للهند وهو الطريق الذي كان معروفاً لدى البحارة العرب، وفي هذا السياق فقد ذكر المؤرخ "النُّهْرُوالي" أن البحّار العربي المعروف أحمد بن ماجد هو من ساعد دا غاما في اكتشاف هذا الطريق وهو الذي دل البرتغاليين عليه، إلا أن تلك الرواية التاريخية لم تجد ما يؤيدها ويسندها، وقد ثبت خطؤها تاريخيا، ولم يأتِ على ذكرها أي من المؤرخين البرتغاليين. خلال رحلة فاسكو دا غاما، حطت به الرحال في أول محطة أفريقية على الطريق الجديد، وكانت تلك المحطة هي "الموزمبيق"، وعندما فشل دا غاما في التقرب لأهالي تلك المنطقة وأثار في نفوسهم الشك حول حسن نواياه، قام بقصفهم بالمدفعية انتقاماً منهم وهو يهم بالرحيل، مخلفا وراءه كماً من الدمار والقتل والتشريد، مطلقاً بذلك شرارة الخراب والتدمير والسلب والنهب التي مارسها البرتغاليون بعد ذلك لسنوات في أفريقيا والخليج العربي وكل المناطق التي وطؤوها، فبعد تلك الحادثة ولإدراك دا غاما أنه نجح في اكتشاف الطريق المؤدية إلى الهند أطلق مقولته الشهيرة "الآن طوقنا المسلمين، ولم يبقَ إلا أن نشد الخيط"، واستمرت بعد ذلك الحملات البرتغالية في نشر الذعر والرعب والتخريب على طول الساحل الأفريقي وصولا إلى الخليج العربي، فقد قام أثناء رحلته الإجرامية تلك بهدم ثلاثمائة مسجد بمجرد دخوله لمدن المسلمين في أفريقيا، كما قام في حادثة شهيرة بإغراق سفينة للحجاج في بحر عمان كان على متنها مائة شخص، كما قام في حادثة أخرى بحرق مجموعة من السفن المحملة بالبضائع من الهند، وأمام تلك الأحداث المأساوية من النهب والسلب على طول السواحل والتي سجل التاريخ كماً كبيراً منها، يمكننا تصور أن ما لم يسجله التاريخ من المآسي يفوق ما ذكر بكثير، وخلال رحلة أخرى قام دا غاما بإضرام النار في سفينة كانت عائدة من الحج تحمل على متنها 380 راكباً، وتركها لتشتعل في عرض البحر، ويذكر المؤرخون أن السفينة استغرقت أربعة أيام لتحترق بالكامل وتغرق بعد ذلك بمن فيها. خلال فترة احتلال البرتغاليين لمنطقة الخليج العربي التي استمرت لما يزيد عن مائة عام، وجد البرتغاليون أنفسهم أمام رفض شعبي لوجودهم، نظراً لتاريخهم الدموي وإفسادهم للتجارة والملاحة في المنطقة، وقد وقعت مواجهات عديدة مع المحتل، إلا أن أروع الملاحم التي سطرها التاريخ، هي المقاومة الباسلة التي قادها البطل العربي مقرن بن زامل الجبري، آخر حكام الإمارة الجبرية، فقد رفض مقرن بن زامل دفع الجزية للمحتل، مما حدا بالأخير لإعلان الحرب عليه، وواجه مقرن بن زامل جيوش المحتل في ملحمة بطولية سطرها مؤرخو البرتغال أنفسهم، وتحدثوا عن شجاعته واستبساله في المقاومة، إلى أن استشهد في تلك المعركة في عام 1521، بعد أن دافع عن أرضه ورفض الانصياع لإرادة المحتل، وقد بلغت درجة الحقد على القائد مقرن بن زامل إلى قطع رأسه وحمله إلى البرتغال، وقد قام القائد البرتغالي أنطونيو كوريا بتخليد هذه الذكرى الدموية برسم رأس الأمير مقرن وهو ينزف على درع أسرته وهو الرسم الذي لايزال موجودا حتى يومنا هذا. تعطينا تلك الومضات من التاريخ عدة دلالات، منها أن نهضة أوروبا وانفتاحها على العالم وتطورها التقني والصناعي، لم يكن أمرا إيجابيا بالنسبة لغيرهم على الدوام، فقد تجرعت مناطق عديدة وبعيدة الأمرين نتيجة الحملات الاستكشافية والتجارية الأوروبية، وتعرضت أراضي العالم الجديد بحسب تعريفها في ذلك الوقت لإبادة وتدمير وتشريد، كما صاحب تلك الحملات حروب وويلات وسفك للدماء واستعباد لكل الشعوب التي كانت تسكن الأراضي التي وطئتها قدم المستعمر، هذا فضلا عن حملات التبشير ونشر الدين المسيحي، وإقناع الشعوب المستضعفة وبالقوة أن الرب يحبهم ويريد خلاصهم. من جهة أخرى تكشف لنا تلك اللمحات عن النظرة المركزية التي يحملها الأوروبي في قرارة نفسه، متصورا أنه سيد العالم بلا منازع، مثبتاً ذلك بالقوة الجبرية كما يتبين من أحداث التاريخ محافظاً على تطبيق تلك الرؤية إلى يومنا هذا عبر القوة الناعمة والقوة الفعلية إذا تطلب الأمر، ومن ناحية أخرى تبين لنا تلك الومضات أننا في كثير من الأحيان، نقرأ التاريخ وفق نظرة مدونيه دون تمحيص، فكثير من المستكشفين والرحالة والأبطال القوميين بالنسبة لشعوبهم، ليسوا كذلك بالنسبة لنا فماهم في حقيقة الأمر سوى سفاحين ومحتلين ومجرمين أساؤوا للشعوب أيما إساءة، وللأسف نجد كتبنا تزخر بذكرهم وفق الرواية الغربية وتمجد إنجازاتهم، في الوقت الذي لا تأتي فيه على ذكر أبطالنا التاريخيين، ولا نجد لهم سوى نذرا يسيرا في الذاكرة التاريخية، ولم يدون تاريخنا بطولاتهم وإنجازاتهم، ونحن هنا لسنا بصدد استرجاع الآلام وإذكاء الأحقاد التاريخية، فالتاريخ يبقى تاريخاً، إلا أن الأجدر بنا إعادة الاعتبار لكثير من الشخصيات التاريخية العربية التي طُمست وطواها النسيان، وإجراء الأبحاث حول تلك الشخصيات وتضمينها المناهج الدراسية، وإعادة كتابة التاريخ بشكل موضوعي وصياغة الأحداث وإيضاح الحقائق وفق وجهة نظرنا وعدم الاكتفاء بما دونه المنتصر، فما يدونه المنتصر ليس صحيحاً دائماً.

2092

| 28 يناير 2021

من سيحكم عالم المستقبل؟

خلال الأيام القليلة الماضية، تتابعت الأحداث بشكل متسارع وتراكمت وكأنها تضع خاتمة للعام المنصرم وما حمله للعالم من تحولات وتغيرات و"مآسٍ"، وأكثر ما أثار الرأي العام العالمي خلال الأيام الماضية، قضية منع رئيس الولايات المتحدة الأمريكية "السابق" دونالد ترامب من التغريد وإيقاف حسابه الشخصي بشكل نهائي من على منصة تويتر الشهيرة، تبعتها مواقع وسائل التواصل الاجتماعي التي قامت هي الأخرى بوقف حسابات ترامب ومنعه من مخاطبة جمهوره عبرها. أعادت تلك الأحداث إلى ذاكرتي تفاصيل رواية شهيرة قرأتها منذ زمن للكاتب جورج أورويل نشرت عام 1949، وكانت تحمل اسم" 1948"، وتصور تلك الرواية دولة "إيرستريب" المتخيلة التي يحكمها "الأخ الكبير" ويسودها الفساد والقمع وتزوير الحقائق في إسقاط على انتشار الاشتراكية وتمكنها من مفاصل العالم. بطل الرواية هو "وينستون سميث" موظف في وزارة "الحقيقة" وأحد أعضاء الحزب الحاكم، تتلخص وظيفة سميث في تغيير الحقائق وتمجيد الأشخاص أو"محوهم" من الواقع وإعادة صياغة المقالات القديمة التي سبق نشرها لتتوافق مع الحالة الراهنة لبلاده التي تخوض حروباً لا تهدأ مع جيرانها، مسترشدة بشعارها" الحرب هي السلام، والحرية هي العبودية، والجهل هو القوة". وتصور الرواية الحزب الحاكم وهو يقوم بمراقبة المواطنين على الدوام وطوال الوقت عبر ميكروفونات مخفية مثبتة في كل منزل، ويخاطبهم عبر شاشات مثبته في جدران منازلهم لا يمكن إطفاؤها، حيث يقوم الحزب عبرها ببث الدعاية الحزبية والإعلانات المهمة، ويهدد المتذمرين من النظام ويرصدهم. استرجعت تلك الصورة التي أبرزتها الرواية بحبكة جميلة، وقارنتها بالسطوة والقوة والسلطة التي تمتلكها وسائل التواصل الاجتماعي في وقتنا الراهن وعلى رأسها "تويتر"، والقدرة الكبيرة لدى تلك الوسائل في التأثير على الرأي العام وتوجيه مساره، وكيف استطاعت تلك المواقع من إخفاء شخص بحجم رئيس أقوى دولة من على الوجود "الافتراضي"، والمفارقة هنا أن رواية "1948" تصور نهاية العالم في ظل حكم اشتراكي متخيل في حين أن عالم اليوم المشابه إلى حد ما لأحداث تلك الرواية هو عالم أفرزته الرأسمالية والحرية والانفتاح، وتساءلت هنا "من سيحكم عالم المستقبل؟". تفسر نظرية صراع الطبقات الاجتماعية للفيلسوف كارل ماركس أسس التوترات والصراعات في مجتمع منقسم إلى طبقات، ويرى ماركس أن صراع الطبقات هو المحرك الرئيس للتغيرات الاجتماعية في سياق التاريخ، حيث يتولد عن هذا الصراع طبقات جديدة تتصارع هي الأخرى فيما بينها في حركة مستمرة، وبحسب النظرية الماركسية فإن الصراع بين الطبقات لا يقضي على تناقضاتها بل يعيد تشكيلها. في العالم الرأسمالي الحديث تمثل البرجوازية رأس الهرم في السلطة، في حين تقع طبقة "البروليتاريا" أو الطبقة العاملة على الجانب الآخر من الصراع، وفي الوقت الذي استطاع رجل أعمال وهو ترامب أن يحكم أقوى دولة في العالم، لم يكن الأمر كذلك على الدوام، فقبل الثورة الفرنسية التي تسلقتها البرجوازية واستفادت منها، كان الحكم في فرنسا حكراً في يد طبقة النبلاء تساندها سلطة الكنيسة، ولم يكن للبرجوازية الناشئة آنذاك أن تصل إلى الحكم لولا الصراع المحتدم بين الطبقات، والسؤال هنا: هل نشهد الآن صراعا بين البرجوازية الكلاسيكية وطبقة جديدة مؤلفة من ملاك شركات التكنولوجيا والمعلومات ومواقع التواصل الاجتماعي، وهل نحن بصدد تبلور تلك الطبقة من النخب التكنولوجية التي تمتلك مقومات مختلفة ولديها قوة هائلة في عالم جديد تسوده التكنولوجيا وتسيطر عليه تقنية المعلومات؟ ومن يعلم ربما يكون لتلك الطبقة أسس وقواعد مغايرة لما نعرفه، فلا يغني امتلاك رأس المال ليتمكن أي شخص من الولوج إليها أو أن يصبح أحد أباطرتها، بل لابد أن يكون له "مواطنون" واتباع ومريدون، وهو ما تحققه تكنولوجيا المعلومات!. يمكننا التدليل على هذا الواقع بالنظر إلى شركة "أمازون" التي بدأت كموقع لبيع الكتب على الإنترنت، ثم ما لبثت أن أصبحت أكبر متجر لبيع التجزئة في العالم، تبيع كل شيء وتنافس في أسواق بعيده وتمتلك أساطيل من طائرات الشحن تجوب العالم، أما صاحبها فلا يخفى على أحد إنه ثاني أغنى رجل في العالم! بعد أن نُحي عن المركز الأول الذي تصدره لسنوات، وحتى عندما حورب وأريد ابتزازه، تم هذا الأمر عبر تقنية المعلومات عبر اختراق هاتفه! نعم إنه مستقبل المعلومات والتكنولوجيا. يدور الحديث منذ مدة طويلة في الأوساط السياسية والاقتصادية، عن أن العالم متوجه نحو تبلور نظام عالمي جديد أو حكومة عالمية موحدة، وبالرغم من اكتساء تلك الفرضية بنظرية المؤامرة، إلا أن تلك الأوساط ترى بأن الخطوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية بتأسيس المنظمات الدولية والدخول في تحالفات إقليمية وعالمية واتفاقيات التجارة الحرة، ما هي سوى مقدمة لتحقق تلك الصورة، وبعيداً عن تقييم صحة تلك الفرضية من عدمه، لا يمكننا أن ننكر أن موازين القوى العالمية تغيرت بسبب القفزات التكنولوجية الهائلة، وعلى وجه الخصوص خلال السنوات القليلة الماضية، أما الحروب التي كانت تخاض في أرض المعارك، أصبحت تحسم عبر الطائرات المسيرة التي توجه عن بعد بفضل التكنولوجيا الحديثة، ولم تعد اللياقة البدنية والجسمانية شرطاً لأن تكون طياراً مقاتلاً بارعاً، بل يكفي أن تحسن" اللعب" عن بعد لتحسم الحرب لصالحك، والانتخابات وصناديق الاقتراع أصبحت توجه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتحسمها درجة تأثير المرشحين في تلك المواقع. وجدت دراسة أجرتها شركة "zignal laps " أن الحديث حول تزوير الانتخابات الأمريكية الأخيرة في مواقع التواصل الاجتماعي، تراجع بنسبة 73% بعد أن قامت تلك المواقع بإيقاف حساب دونالد ترامب من على منصاتها، وتساءل الكاتب Dean Obeidallh في مقال منشور على موقع CNN عما كانت ستؤول إليه الأمور لو أن تلك المواقع منعت الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في وقت مبكر من استخدام منصاتها للتشكيك في نزاهة الانتخابات الأمريكية، وهل كان ذلك سيؤثر في آراء الناخبين؟ والأهم من ذلك، هل كان هجوم السادس من يناير على الكونغرس سيقع لو أن تلك الخطوة تم اتخاذها مسبقاً؟ تكشف تلك التساؤلات المشروعة مدى الإمكانية التي وصلت لها تلك المنصات والمواقع وشركات التكنولوجيا، كما أنها تنبئ بالقوة التي ستبلغها مستقبلا، رغم البراءة التي تبدو عليها والأهداف النبيلة التي تعلنها، فقد كشفت الإحصائيات أن عدد مستخدمي منصة تويتر تجاوز عددهم 330 مليون مستخدم، في حين أن 83% من حكام الدول لديهم حساب على تويتر، وخلال العام 2017 تم إنفاق 70 مليون دولار أمريكي على الإعلانات في المنصة نفسها، كما تتجاوز القيمة السوقية لشركة تويتر 36 مليار دولار، فيما تجاوزت قيمة فيسبوك السوقية 70 مليار دولار. أما شركة أمازون فقيمتها تتجاوز الـ280 مليار دولار! وبلا شك فإن تلك الأرقام تفوق قيمة الناتج الإجمالي المحلي لكثير من دول العالم، بل إنها تفوق الناتج الاجمالي المحلي لدول مجتمعة! وإذا ما أخذنا في الاعتبار التأثير الكبير لتلك المواقع والشركات التكنولوجية الذي يفوق تأثير دول عظمى ويزعزع مكانتها، يتبادر إلى الذهن سؤال مهم عن جدوى الحديث عن تسييس تلك المواقع لمنصاتها واقتحامها للمعترك السياسي، ولماذا علينا أن نفترض أن تنأى تلك الشركات العابرة للقارات بنفسها عن السياسة ونظن جازمين أنها ستبقى دوماً على الحياد دون أن تؤثر في العالم وتسوقه إلى ما تريد؟ أليست هي من يقوم برسم السياسات ويرسي قواعدها؟ إن التكنولوجيا الحديثة ستشكل مستقبل العالم بلا شك، وإذا كان الأمر كذلك ألا يعد منطقياً، أن تسعى تلك الشركات لتجيير العالم لصالحها؟ وتشكيله كما تريده أن يكون! وأين موقعنا نحن المستخدمين من الإعراب؟ هل سنستمر في الاعتراض على استخدام بياناتنا واستغلالها، في الوقت الذي تسمع وترى تلك المواقع كل ما نفعل، ثم تقترح علينا المنتجات التي تحدثنا عنها خلسة بيننا وبين أنفسنا، وتبيعنا وتشترينا كسلع في سوق النخاسة التكنولوجي! ألا يكفي أن يقترح عليك موقع فيسبوك أصدقاء الطفولة الغابرة الذين سقطوا من الذاكرة دون أن تفصح عن الخوارزميات المستخدمة في تحديد ذلك الصديق العتيق! أليس من الأجدر بنا أن نتساءل هل ستحكم تلك الشركات العالم؟ وكيف سيكون شكل العالم المحكوم من مواقع التواصل الاجتماعي؟

3440

| 21 يناير 2021

الأكل.. والشرب.. والإسراف... المعادلة الذهبية

ما أن تصل المكان، حتى تتفاجأ بأكواب الشاي الورقية تملأ الأرض، يلقيها بعض المارة دونما اكتراث فور انتهائهم من احتساء مشروبهم المفضل وهو(الكرك)، ذلك المشروب المؤلف من الشاي والحليب وبعض البهارات والذي استمد اسمه من اللغة الهندية، وأصبح شربه ثقافة عامة لدى المجتمع القطري والخليجي عموماً، وسلوكا متأصلا لدى كافة شرائح المجتمع، إلا أنه متهم من قبل أخصائيين التغذية بأنه سبب من عدة اسباب للسمنة التي يعاني المجتمع من ارتفاع معدلاتها. أما المكان فهو وللمفارقة الساحة التابعة لأحد الأندية الرياضية، حيث تنتشر في تلك البقعة الصغيرة سيارات بيع الطعام والمقاهي المتنقلة، (فود تراك)، فعوضاً عن أن يكون هذا المكان مخصصاً لأنشطة رياضية، او أنشطة تجارية متعلقة بالرياضة، استثمرت بعض الأندية المساحات المحيطة بها بتأجيرها لأصحاب المطاعم المتنقلة، في خطوة يعتبرها كثيرون ترسيخا للعادات الغذائية والأنماط السلوكية السلبية والخاطئة. وبالرغم من الجهود المضنية التي تبذلها الدولة في سبيل تعزيز أسلوب حياة صحي وتشجيع اتباع نمط غذائي متوازن والحث على ممارسة الرياضة كأسلوب حياة مستمر، نجد أن الهجمة الشرسة من قبل شركات تصنيع الأغذية او المطاعم ومشاهير وسائل التواصل الاجتماعي وحتى الناس أنفسهم دون وعي منهم بذلك، أدت الى إضعاف النتائج المرجوة من الإجراءات التي تتخذها الدولة في سبيل مكافحة السمنة وما يرتبط بها من أمراض، فهل تكفي الجهود المبذولة في صد تلك الهجمة الشرسة والتي تقف وراءها رؤوس أموال ضخمة، وشركات ومؤسسات عابرة للقارات؟، أم إن الأمر يتطلب اتخاذ إجراءات أكثر صرامة وحلولا مختلفة بهدف توعية الناس بالمخاطر المترتبة على اتباع أنماط غذائية واستهلاكية خاطئة والحد من تأثر تلك العادات؟. تشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية لعام 2014 إلى أن الأشخاص المصابين بالسمنة في دولة قطر يشكلون نسبة تجاوزت الـ 40%، في حين تجاوزت نسبة الأشخاص الذين يعانون من زيادة الوزن 78.1% بحسب الاحصاءات نفسها، في حين تعد السمنة السبب الخامس والرئيس للمخاطر الصحية على المستوى العالمي، كما انها سبب للإصابة بجملة من أخطر الأمراض كسرطان القولون، وسرطان الثدي، إلى جانب الإصابة بالسكري من النوع الثاني، وبناءً على إحصائيات منظمة الصحة العالمية فإن من بين عشرة أشخاص في قطر هناك 7 أشخاص مصابون بزيادة الوزن، و3 من بين 10 أشخاص مصابون بالسمنة. وقد حذرت إحصائيات وزارة الصحة والاتحاد الدولي لمرضى السكري من ارتفاع نسبة الاصابة بمرض السكري في قطر خلال السنوات الأخيرة، خاصة للأطفال الاقل من 14 سنة، كما حذر الاتحاد الدولي من إصابة ربع المواطنين بالسكري بحلول عام 2030. وأمام هذه الحقائق يتبادر الى الذهن سؤال جوهري، عن جدوى الجهود المبذولة في مكافحة السمنة والامراض المرتبطة بها، وهل يجب علينا كحكومات وافراد ومؤسسات مجتمع مدني بذل مزيد من الجهود؟ أم تغيير الاستراتيجيات المتبعة لمواجهة هذه المخاطر؟. جهود وزارة الصحة العامة تبذل الدولة عبر وزارة الصحة العامة جهودا مضنية للحد من ظاهرة السمنة وخفض معدلاتها، إدراكاً منها لخطورتها على الفرد والمجتمع، حيث يتكبد العالم سنوياً 700 مليار دولار بسبب السمنة، وفي إطار تلك الجهود أنشأت الدولة مؤخراً المركز الوطني لعلاج السمنة التابع لمؤسسة حمد الطبية لتدعيم جهود مكافحة السمنة، في حين أجرى قسم جراحات الأيض والسمنة التابع للمؤسسة منذ افتتاحه في عام 2011، آلاف العمليات الجراحية التي تهدف للقضاء على السمنة كالتكميم وتحويل المسار وغيرها من التدخلات الجراحية، وفق أحدث التقنيات وآخر ما توصل له العلم في هذا المجال، إلا أن تلك الجهود يقوضها طوفان جارف من العادات الغذائية الخاطئة والنمط المعيشي المقاوم للتغيير. وأمام تلك المعطيات، وبالنظر إلى أسلوب الحياة الذي تعيشه المجتمعات الحديثة، وما يترتب عليه من سلبيات كثيرة أبرزها مرض العصر "السمنة"، نجد أن الكثير ممن يعانون من السمنة يلجؤون في محاولتهم للقضاء عليها لاتباع الحميات الغذائية والرجيم، حيث يتوقع أن يبلغ حجم السوق العالمي للحمية الغذائية بحلول عام 2024(253) مليار دولار، في مقابل ذلك خلصت دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا، الى أن معظم أنظمة الحمية القاسية تفشل في تحقيق هدفها، ووفقا للدراسة فقد بينت النتائج أن من يتبعون حمية غذائية يفقدون من 5 إلى 10% من وزنهم في أول ستة أشهر، الا ان ثلثي متبعي الحميات الغذائية استعادوا وزناً أكبر مما فقدوه خلال 4 إلى 5 سنوات. ولذلك يرى كثير من الخبراء والمتخصصين في مجال علاج السمنة أن التدخل الجراحي للقضاء على السمنة لا يعد خياراً ترفياً زائداً عن الحاجة، بل هو أمر ضروري وخيار مثالي كحل أخير للقضاء على هذه المشكلة، وحتى مع الأخذ بالاعتبار المخاطر المترتبة على التدخل الجراحي الا أن المخاطر المترتبة على السمنة والأمراض المرتبطة بها أكبر بكثير وينبغي النظر لها بجدية وعدم الاستهانة بها. ولكن قبل أن نحكم على التدخل الجراحي بأنه الحل الأمثل والطريق الأقصر لبلوغ الهدف المطلوب والولوج إلى عالم الرشاقة، ينبغي أن نطرح سؤالاً مهماً وهو: هل يعد التدخل الجراحي حلاً مثالياً ومستداماً للقضاء على مشكلة السمنة؟ وللأسف فإن الإجابة على هذا السؤال هي"لا"!، فعلى الرغم من أن التدخل الجراحي يساعد المريض للوصول الى هدفه المنشود، الا أنه لا يقدم ضمانة بأنه لن يعود لاكتساب ما فقده من وزن مرة اخرى بعد مدة في ظل استمراره بممارسة عاداته الغذائية الخاطئة، فالشواهد أمامنا كثيرة لمن أجروا عمليات التكميم وغيرها من الجراحات، ثم ما لبثوا ان استعادوا أوزانهم مرة أخرى، اذا ما الحل؟. تعد العمليات الجراحية الرامية للقضاء على السمنة وسيلة مساعدة وليست حلاً دائماً، فمع استمرار المريض بعد إجرائه للعملية في تناول الأغذية الغنية بالسكريات عالية السعرات الحرارية، والوجبات السريعة فضلاً عن عدم ممارسة الرياضة بشكل منتظم والاستمرار في اتباع اسلوب حياة سيئ، سيعود لا محالة الى سيرته الأولى، فالعملية الجراحية هي وسيلة تساعد مريض السمنة على تغيير نمط حياته الى الأبد وتحسين جودة حياته بشرط إدراكه لذلك ورغبته الجادة في تحقيق التغيير، ودون إجراء هذا التغيير والتعويل على الجراحة فقط فإن الجهود التي بذلها المريض مصيرها الى الفشل وستذهب سدى. وأمام تلك الإشكالية المعقدة والحلقة المفرغة، ينبغي علينا النظر لهذه القضية بجدية أكبر، ودعم الجهود التي تبذلها الدولة للقضاء على السمنة وخفض معدلاتها في المجتمع، وعدم القاء اللوم على مريض السمنة واعتباره سببا لما هو فيه وتصويره كشخص كسول يرفض الحلول المطروحة أمامه، باتباع حمية غذائية وممارسة الرياضة فقط بتلك البساطة، فالسمنة مشكلة عالمية منتشرة انتشاراً كبيراً وهي نتيجة حتمية لنمط الحياة الذي نعيشه، كما انها مرتبطة بأبعاد نفسية وسلوكية عديدة، ولذلك ينبغي تضافر الجهود لإيجاد حلول ناجعة لهذه المشكلة، والا تبقى جهودا متفرقة فهذا يبني وذاك يهدم. لابد ان تطرح وزارة الصحة العامة خطة وطنية متكاملة بالتنسيق مع كافة الجهات الرسمية وغير الرسمية، وإشراكها في وضع حلول جادة لهذه المشكلة وتنفيذها على ارض الواقع، وعدم الاكتفاء بالخطوات المتخذة لمواجهة الاستهلاك المفرط للأغذية المصنعة والأغذية عالية السعرات الحرارية والوجبات السريعة، خصوصا إذا ما اخذنا بعين الاعتبار النشاط المحموم والترويج المفرط لأنماط استهلاكية خاطئة، تعتمد عليها الصناعة الغذائية لتسويق منتجاتها، بجانب الدور السلبي الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي ومشاهيره في نشر ثقافة سلبية في التعامل مع الغذاء كوسيلة للمتعة والترفيه، لا كحاجة انسانية بيولوجية، وعلينا ألا نتوقع سهولة تغيير قناعات الأفراد وتصحيح تصوراتهم أمام هذه الهجمة العكسية الشرسة والمستمرة بمجرد القيام بتصغير البطون دون تغيير العقول. ينبغي إعادة النظر في الاشتراطات والمواصفات والمقاييس المتعلقة بالأغذية، فكثير من الدول الاوروبية على سبيل المثال، تصنف بعض المنتجات الغذائية على أنها أغذية غير صالحة للاستهلاك الآدمي، لذلك فمن الأجدر بنا لمكافحة شبح السمنة إعادة النظر في منتجات قد تكون هي السبب وراء جملة من الأمراض التي يعاني منها المجتمع. فضلاً عن ضرورة إعادة النظر في القوانين والتشريعات المتعلقة بالأنشطة التجارية المتخصصة في مجال الأغذية، وعدم قصر الرقابة الغذائية على جوانب النظافة والجودة دون تشديد الرقابة والتدقيق في مكونات المنتجات الغذائية نفسها ومدى ملاءمتها لنا وتأثيرها على صحتنا، هذا فضلا عن ضرورة إعادة النظر في الطريقة التي يتم بها التسويق والترويج للأغذية وعدم ترك الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام الآلة الدعائية والحملات الإعلانية الشرسة، وترك الحبل على الغارب للمطاعم وشركات الأغذية لتطعمنا وتطعم ابناءنا ما يملأ جيوبهم دون تحمل مسؤولية تجاه ما يملؤون بطوننا به. وعلى سبيل المثال لا الحصر تقوم مطاعم الوجبات السريعة بإغراء الزبون بزيادة حجم الوجبة مقابل زيادة طفيفة في السعر، الأمر الذي يشجع على تناول مزيد من السعرات، وقد بينت دراسة امريكية أن السعرات الحرارية في البطاطس المقلية التي تقدمها مطاعم الوجبات السريعة احتوت في عام 1950، على 210 سعرات حرارية، في حين انها بلغت في عام 2003، 610 سعرات حرارية! والأمر كذلك بالنسبة للمشروبات الغازية، ولذلك فقد قامت بعض الدول بمنع مطاعم الوجبات السريعة من تقديم هذا العرض ومضاعفة حجم الوجبة، وقد يرى البعض أن هذه الخطوة تحد من حريتهم وتتدخل في خياراتهم، الا أن المخاطر التي تترتب على استمرار هذا الوضع أكثر جدية من مسألة حرية الاختيار، وخلال جائحة كورونا تم اتخاذ عدد من الاجراءات التي تحد من حرية تنقل الأفراد وتلزمهم بعدد من الخطوات، الأمر الذي يُعتبر مقبولاً بالنظر الى المخاطر التي تهدد المجتمع جراء انتشار الوباء، فسلامة المجتمع أكثر أهمية من حرية الاختيار لأفراده، والسؤال هنا هو: الا تعد السمنة أشد خطراً وأكثر فتكاً وأكبر تكلفة على الدولة؟ ما يحتم علينا النظر لهذه القضية بجدية أكبر، والقيام بإجراءات اكثر صرامة، وسن قوانين تحد من تغول مطاعم الوجبات السريعة واغراءاتها، سعياً للحد من انتشار السمنة والقضاء عليها قبل أن تقضي علينا.

3168

| 14 يناير 2021

فهد العسكر شاعر الكويت الذي ثار على المألوف وأُحرقت أشعاره

كُفي الملامَ وعلّليني... فالشكُّ أودى باليقينِ... وتناهبتْ كبدي الشجونَ... فمَنْ مُجيري؟ مِن شجوني... وأمضّني الداءُ العياء... فمَنْ مُغيثي؟ مَنْ معيني؟... هكذا تكلم الشاعر الكويتي فهد العسكر وهو يروي معاناته وألمه ويشكو وحدته وعزلته بعد أن لفظه مجتمعه وأعرض عنه وفرض عليه عزلة اجتماعية ووحدة قاتله، ولقد وافت المنية الشاعر العسكر المولود في الكويت في عام 1917 وهو يناهز الرابعة والثلاثين من عمره، بعد أن كف بصره وأنهكته الأمراض، ولم تكن لتصلنا أشعاره وسيرته ورحلة معاناته بعد ان أحرقت قصاصات أوراقه، لولا أن صديقه الشاعر عبدالله زكريا الأنصاري استدرك الأمر وجمع شتات ما استطاع أن يجمعه من بقايا أشعاره وضمنها كتابا يتناول سيرة الشاعر العسكر أصدر في عام 1956. إن المعاناة التي عاشها فهد العسكر كانت نتاجاً حتمياً لرفضه للمألوف وخروجه عن السياق الاجتماعي الذي كان يعتبر في حينها ثوابتَ لا تُمَسُّ، فضلاً عن تساؤلاته وحيرته التي اختلجت في نفسه وبثها في أشعاره وخطها في قراطيسه البالية، الأمر الذي جرعه قسوة الوحدة والرفض والإقصاء، ودفع ثمنها من شبابه، فلم يستوعب المجتمع في حينها ما يتفوه به الشاعر فهد العسكر ولم يكن مستعداً للتعامل مع تساؤلاته وشكوكه ودعواه للتغيير والاصلاح تعاملاً موضوعياً، وقد سطر العسكر ردود الأفعال التي تصدت له في ذلك الوقت وصاغها شعراً يبين المدى التي آلت إليه الأمور قائلاً: رقصوا على نوحي وإعوالي وأطربهم أنيني وتحاملوا ظلماً وعدواناً علي وأرهقوني.. فعرفتهم ونبذتهم لكنهم لم يعرفوني.. وهناك منهم معشر أف لهم كم ضايقوني.. هذا رماني بالشذوذ وذا رماني بالجنونِ.. وهناك منهم من رماني بالخلاعةِ والمجونِ.. وتطاولَ المتعصّبونَ وما كَفرتُ وكفّروني.. وفي تلك الأبيات يصرّح شاعرنا العسكر انه لم يكفر، ورغم ذلك تم تكفيره، ولنا أن نتصور ما يستتبع التكفير من نبذ وجحود وإقصاء في يومنا الحالي، فكيف به وهو الذي عاش في حقبة لم يكن فيها الاختلاف أمراً مقبولاً أو مطروحاً حتى، ليواجه وحده طوفاناً عاتياً لا يُبقي ولا يذر. لم يكن لفهد العسكر أن يتجرع الألم ويواجه المعاناة التي واجهها لو أنه ولد في زمان غير زمانه، وعلى افتراض أنه عاش بيننا الآن لربما كان أديباً مخضرماً وشاعراً مقدّراً، وكان من الممكن التعامل مع فكره بطريقة مختلفة والتعاطي معها بشكل أفضل، ما يعطينا دليلاً على أن ثوابت المجتمع نسبية ومتغيرة مع تغير الزمان والمكان، وأن رقعة الثوابت قد تتسع وتضيق تبعاً لظروف عديدة في حين أن تلك الثوابت في حقيقتها قد تكون مقتصرة على جوانب محددة، سواءً فيما يتعلق بالدين أو غيره. ولكن.. هل يمكنننا اعتبار تجربة فهد العسكر كتجربة جاءت في سياق غير متسق مع الزمن؟ وبعبارة أخرى، هل يصح القول إن الشاعر فهد العسكر كان سابقاً لزمانه، أم أن السياق الذي مر به العسكر لازال يتكرر ولكن بصور مختلفة؟ تعاني مجتمعاتنا من عدم القدرة على التعامل مع السياقات الفكرية الخارجة عن المألوف، فضلاً عن صعوبة التعامل مع التساؤلات الكبرى والشكوك، واعتبارها خروجاً على الثوابت والقيم، دون النظر بتفحص للتاريخ واستقاء العبر منه، وإدراك النسبية التي تؤطر تلك الثوابت، وعلى الرغم من أننا نعيش حياة متقدمة ومتطورة، إلا أن المنظومة الفكرية التي تغلب على مجتمعاتنا لم تأخذ بالأسباب الموضوعية للتقدم، الأمر الذي يولد فجوة بين الواقع المادي والواقع الفكري للحضارة. لقد أدى هذا الوضع إلى جمود فكري وخوف من فقدان المكتسبات التي تسيطر على تصوراتنا، واستخدام الموعظة في حين، والتقريع والتحذير في أحايين كثيرة لمواجهة الأسئلة والتي يطرحها الشباب في مسائل حساسة نتيجة احتكاكهم بالآخر، والاطلاع على أفكار لم يعهدوها في مجتمعهم، ومع عدم سعينا لتجاوز تلك الإشكالية سنلجأ إلى الانكماش والانكفاء نحو الداخل ولن نحاول تجاوز تلك العقبة ومواجهة الانفتاح الذي نعيشه ويفرض نفسه علينا فرضاً ولا مناص لنا منه، الأمر الذي يتطلب منا الاستعداد والمواجهة عوضا عن التقهقر والانغلاق. من الإشكاليات التي تواجه التجربة الفكرية في مجتمعاتنا الإشكالية المتمثلة في القدرة الكبيرة على التدمير الذاتي، وأعني بها وجود ما يشبه الآلية التي تقوم بتدمير أي محاولة لتصحيح مسار النظام واعتبار تلك المحاولة بمثابة "برمجة خبيثة"، كما في نظم الحاسوب أو"الفيروس" بالنسبة للجهاز المناعي في جسم الإنسان، الأمر الذي يؤدي لاستجابة فورية لمقاومة ذلك "الدخيل" وإقصاء من ينتقد المألوف أو من يمتلك رؤى تخالف آراء المجتمع، وتحجيمه بكافة الوسائل وإخراجه من السياق المجتمعي، وهو ما يحرم المجتمع من نقد الذات وتصحيح المسار، كما تؤدي تلك المعضلة إلى شلل المجتمع وحرمانه من تحديث نفسه وتجاوز عقباته والانفتاح على الآراء إلى أقصى حد واستيعابها والتعامل معها، كما ينتج هذا الواقع أفراداً يخشون الاختلاف ويسعون للاتساق مع المجتمع مهما كانت أخطاؤه خوفاً من الإقصاء والنبذ. وبجانب ذلك الخوف من الإقصاء والنبذ وخشية الإفصاح عن الآراء غير المتسقة مع المجتمع، وما يترتب على ذلك من جمود، تتبلور إشكالية أخرى أمام هذا الواقع ذات وجهين، أحدهما أقبح من الآخر، الأول أننا سنواجه حالات من التمرد والخروج عن السياق الاجتماعي ولكن بصورة ممجوجة غير ناضجة، وهو أمر مفهوم وغير مستغرب، فالضغط لا يولد سوى الانفجار، أما الوجه الآخر فيتمثل في سعي الآخر لتغييرنا وخلخلة ثوابتنا والتشكيك فيها والحط من مكانتها عبر أساليب كثيرة ومتنوعة. وأحد أهم تلك الأساليب هي دعم المتمردين من مجتمعنا وإعلاء شأنهم وتلميع صورتهم،"وهو ما نلاحظه بكثرة" وفرض التغيير علينا فرضاً، وبطبيعة الحال فإن التغيير عبر تلك الأساليب لن يعطينا نتائج تؤدي لنضوج التجربة والخروج من حالة الجمود ولن تقذف حجراً في المياه الراكدة، بل ستنتج تغييراً مشوهاً وواقعاً ممسوخاً دون أن نلحظ ذلك. عندما نستقي الدروس من التاريخ ونعيد الاعتبار لمن أقصاهم المجتمع في حينها ونظن جازمين أنه لم ينصفهم ونسرع في الحكم عليهم، لا نلحظ أننا نعيد الكرة ونمارس ما مارسوه مع المختلفين والخارجين عن المألوف، ولا ندرك أن الوضع ما يزال مستمراً. لقد مرت تجربتنا الفكرية بمآس ٍ عديدة دون التوقف عندها ومراجعتها، و آلية التدمير الذاتي لازالت فعالة، وقد مورست على كل من تجرأ على التغيير وتحقيق النقد الذاتي وتقييم التجربة، والشواهد لدينا كثيرة بدءاً بالعلماء الذين نفخر بأن الغرب استقى منهم علومه وأسس لنهضته، في حين أنهم نُبذوا و أُخرجوا من سياق مجتمعهم في وقتهم، مروراً بمن حاول قدح شرارة التجديد كأمثال محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وغيرهم كثيرون انتهاءً بالشاعر فهد العسكر. ينبغي أن ندرك أنه ليس من الضرورة بمكان أن نوافق ونتفق مع من يختلف معنا أو من ينتقد الثوابت النسبية، ولكن لابد لنا من تغيير طريقتنا في التعامل مع هذا الواقع وتغيير تصوراتنا عن الثوابت وإدراك أنها نسبية ومتغيرة، وأن نتعاطى مع الشكوك كأمر إيجابي يُحيي المجتمع ويخرجه من حالة الجمود ويجنبه تكرار الأخطاء، وليست كلعنه ينبغي التحذير منها وتجريمها، فلولا الشكوك لما تساءل الأنبياء والصالحون عن جدوى ما تمارسه أقوامهم من ضلال وشرك، ودون تحقيق النقد الذاتي وتفعيل الشك المنهجي لتحقيق المعرفة سنصبح كمن قال "إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ".

5160

| 07 يناير 2021

(مسافر زاده الخيال)

تتناول بعض النقاشات التي تدور في مواقع التواصل الاجتماعي والتي تعبر عن نبض الشارع، قضايا هامشية لا تعد موضوعات محورية، ومع الأخذ بالاعتبار اختلاف الآراء والأذواق ومذاهب الناس فيها، إلا أن غالبية تلك النقاشات لا ترقى بالفعل لأن تكون قضايا مهمة تتصدر الرأي العام كالقضية التي تثار سنوياً عن مدى مشروعية تهنئة بابا نويل بعيده المجيد من عدمها، وغيرها من القضايا. خلال العام الجاري والذي شارفنا على نهاياته، ومع ما يمر به العالم من جائحة المت به، وتأثيرها على مختلف أوجه الحياة وتقليصها للخيارات أمامنا، نجد أن هناك قضايا أخذت تطفو على السطح واشبعت نقاشًا وبحثًا، ومنها قضية السفر والقيود الموضوعة على حرية السفر والانتقال وتذمر فئة من الناس من الوضع الراهن، وأنا هنا اتحدث عن السفر للسياحة على وجه التحديد ولست بصدد الحديث عن السفر من أجل العمل او الدراسة او العلاج او العودة إلى الديار. يمثل السفر السياحي للبعض أهمية قصوى حيث يتم تصويره كإحدى ضروريات الحياة التي من دونها لن نبلغ مبلغ السعادة والاطمئنان ولن نشعر بالرضا عن أنفسنا، ومع القيود والإجراءات الاحترازية المفروضة على المسافرين والحجر عند الوصول والعودة بجانب الفحوصات التي تنخر الأنوف وتدمع الابصار، نجد البعض مصراً على المضي قدماً وقد تكبد العناء وحزم أمتعته وشد الرحال بإصرار الى ديار تطبق هي الأخرى إجراءات احترازية صارمة جراء الوضع الراهن، دون التوقف وسؤال النفس عن جدوى السفر والغاية منه- سواءً في هذا الوقت او أي وقت- وهل هو فعلاً يحقق لنا المتعة التي نبحث عنها والرضا الذي ننشده. إن تلك الصورة المنطبعة في الأذهان عن السفر أصبحت تتناقلها الأجيال ويرثها الأبناء عن الآباء حتى أضحت ضرورة لا يكتمل عامنا إلا بها وصارت غاية عوضاً عن أن تكون وسيلة، ودون الوقوع في شرك التعميم، نجد أن البعض ممن جعل السفر ديدناً وطقساً سنوياً لا يستطيع التخلي عنه، أصبح في سفره يكرر نمطاً من السياحة لا يكل ولا يمل منه، وتجده وقد دأب على الذهاب إلى الأماكن ذاتها وارتياد المقاهي والمطاعم الموجودة أساساً في بلادنا، وقد يقضي يومه في النوم الى وقت متأخر، ليكمل ما تبقى من يومه في باحة الفندق، متجاهلاً الفوائد السبع للسفر التي تحجج بها ودون ان تقدم له رحلته الميمونة فائدة تذكر سوى بذل المال والذي قد يكون مقترضاً من أجل هذه الغاية. في الواقع فإن السعادة تمثل غاية ينشدها جميع البشر على اختلاف اعراقهم وألوانهم، ولكن دون الوقوف والتفكر في معنى السعادة والتبصر بها، سنجد أنفسنا نمارس ما يفرضه علينا المجتمع على أنه "السعادة" الأمر الذي يقلص خياراتنا ويجعلنا نلهث خلف غاية قد لا تكون هي مرادنا ولن تزيدنا إلا بؤساً وسأماً. يجرنا هذا الواقع الى طرح تساؤل: هل توقفنا يوماً مع انفسناً وتفكرنا فيما نريد؟ وهل تجرأنا وحاولنا الخروج من صندوقنا المغلق وتجاوز الدائرة المرسومة لنا على الرمال، نحو أفق ارحب ومفهوم أشمل للسعادة؟ إن السعادة ليست بالضرورة ما يقوم به الآخرون، وما يسعد غيرنا ربما لا يسعدنا، كما أن اختزال مسببات السعادة باتباع خطى الآخرين هو تقاعس وكسل عن فهم الذات وسؤال النفس عن مرادها، فكثير من الأشخاص لا يعلم ما يريد، فيتصور واهماً ان مجرد قيامه بما يقوم به الآخرون هو في حد ذاته ما يسعده ويطمئن قلبه، وبذلك تغيّر المفهوم واختلت البوصلة، فأصبح القيام بما قام به الاقران في حد ذاته سبباً للسعادة وعدم الشعور بالحرمان، والعكس صحيح. يقول فردريك كيونغ: "لقد نسينا بأن السعادة ليست الحصول على ما لا نملك بل هي أن نفهم وندرك قيمة ما نملك". بالفعل فإن السعي خلف مالا نملك والاعتقاد الدائم بأن الحصول عليه هو مبتغانا لهي التعاسة بحق، ولن يزيدنا هذا الموضع إلا حسرةً وقلقاً، لأن الإنسان مهما بلغ فلن يحصل على كل ما يريد، فلا بد لنا من ان نوقن أن ما تصوره لنا شاشات الهواتف وما تعكسه لنا تطبيقات التواصل الاجتماعي عن حياة الآخرين ليست هي حياتهم بالفعل، وعلينا أن لا نبقى رهينة لتلك التطبيقات وان لا نسمح لها بأن توجه سلوكنا وتحدد أهدافنا، وقد نجحت تلك الوسائل بالفعل في ذلك المسعى، إلى درجة أنها استطاعت ترويج السلع البائرة المرمية على رفوف المحلات في الأسواق الشعبية والتي لا يلتفت لها أحد، وتسويقها بأضعاف أثمانها واصبحت المتاجر الالكترونية غير قادرة على تلبية طلبات الزبائن التواقين للحصول على ما يمتلكه المشاهير وما يسوقونه على انه غاية السعادة وسبب الرضا!. وما ينطبق على سياحة الخارج ينطبق على سياحة الداخل كذلك، ففي كثير من الأحيان عندما أذهب إلى أماكن سياحية ومرافق جميلة موجودة في بلادنا، تنافس في جمالها ورونقها وحداثتها أرقى المرافق السياحية في البلدان الأخرى التي نسافر اليها، أجد أن ارتيادها مقتصر على البعض من الأخوة المقيمين في حين انها تخلوا من المواطنين، في حين أن أماكن أخرى قد امتلأت بهم ولن تجد لك فيها موطئ قدم وكأنك تعيش في عالمين متوازيين، والسؤال هنا هو: لماذا نحرم أنفسنا من خيارات موجودة لدينا بحجج واهية ثم نتذمر من غلاء الأسعار التي تفرضها علينا بعض الأماكن، ونتحسس إذا قيل إنها مخصصة "للبعض" دون غيرهم ممن لا يهمهم المبلغ المدون على الفاتورة؟ ألسنا نحن من قلص خياراته واتبع ما تمليه عليه الحياة الزائفة التي نشاهدها في تطبيقات التواصل الاجتماعي وما يسوقها الآخرون على انها السعادة الحقة؟. في تقرير أصدرته منظمة السياحة العالمية في عام 2018 بالتعاون مع لجنة السفر الأوروبية حول معدل الإنفاق العالمي على السياحة لعام 2017، كشف ذلك التقرير أن نفقات السياحة الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي ارتفعت خلال العام 2017 إلى 60 مليار دولار مقابل 40 مليار دولار في 2010. ومن جهة أخرى فقد أظهرت بيانات بريطانية أن إنفاق الخليجيين على التسوق يعادل ضعفي متوسط إنفاق السياح الآخرين، حيث يبلغ معدل إنفاق السائح الخليجي 442 جنيها إسترلينيا، وهو بذلك يتصدر قائمة السياح في الانفاق على التسوق في بريطانيا. وأمام تلك الحقائق ينبغي علينا مراجعة علاقتنا مع السفر وتصوراتنا عنه، والخروج من دائرة الاستهلاك التي تلاحقنا في حلنا وترحالنا وأفراحنا واتراحنا، والتصدي لـ"رسملة" كل ما يحيط بنا، لا بد لنا من التوقف مع أنفسنا وتحديد أولوياتنا وأن لا نصدق الشعوذة التي يمارسها علينا البعض عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي التي أصبحت نقمة علينا بدل ان تكون نعمة نحسن استخدامها، وأن لا ننخدع بحياة الزيف التي تُصور على أنها الغاية المنشودة، وأن لا نستنزف جيوبنا ونبذل كل ما نملك لتقليد ما يقوم به غيرنا، فإن لم نمتلك الى السفر سبيلاً، فذلك لا يعني أن نبقى رهن التعاسة والتذمر والتململ، فوسائل المتع كثيرة بين أيدينا ولا يحجبها عنا سوى النظر لها بعقلية مستقلة متبصرة وعندها سندرك معنى السعادة وسنوقن أن قول الشاعر محمود حسن إسماعيل "ظمآن والكأس في يديه" في قصيدته "النهر الخالد" التي صدح بها الموسيقار محمد عبدالوهاب ينطبق علينا.

2673

| 31 ديسمبر 2020

(الأمم المتحدة) وجهود تحسين الصورة الذهنية!

يدور النقاش في كثير من الفعاليات بين كبار المسؤولين في الوكالات الأممية، حول انحسار الثقة عن دور الأمم المتحدة والمنظمات والوكالات التابعة لها على الساحة الدولية، ناهيك عن خطابات قادة ورؤساء الحكومات وكبار المسؤولين، الذين يطالبون خلالها في مناسبات مختلفة بضرورة إعادة ضبط دفة الأمم المتحدة وتفعيل دورها المهم في رعاية مصالح الدول والشعوب الأعضاء فيها، وإعادة صياغة نظام يضمن عدم الاستقطاب، مايعكس درجة من الإحباط في تلك الخطابات، في الوقت الذي يذهب فيه مسؤولو الوكالات الأممية إلى ضرورة إعادة الثقة بتلك الوكالات وتعزيز مكانتها وعكس واقعها الفعلي وإبراز صورتها الحقيقية التي تشوهت في مخيلة الشعوب، بحسب زعمهم. وأمام هذا الجدل، وبالنظر إلى رأي الشعوب، نجد أن شريحة كبيرة من الناس فقدت ثقتها تماما بمنظمات الأمم المتحدة ولم تعد تعوّل عليها في حلحلة قضاياها وإدارة أزماتها، كما لم تعد تنظر للمشكلة كمشكلة متعلقة بتشوه صورة المنظمات الدولية في ذهنية الشعوب، على القدر الذي تراها فيه مجرد واجهات لخدمة أغراض الدول العظمى وأدوات لتحقيق مصالح الدول القوية. إذا كيف يمكننا النظر لقضية تجسير تلك الهوة وسد الفجوة بين الواقع الموضوعي لكيان من الكيانات وما يحمله ذلك الكيان من صورة ذهنية عن نفسه في مقابل ما يحمله الأفراد في مخيلتهم من صورة، وإسقاط تلك القضية على جوانب مختلفة قد تصل إلى العمل الإداري المؤسسي وواقعنا اليومي. إن الصورة الذهنية تعد أمراً بالغ الأهمية في حقل الاتصال و الإعلام والدراسات الاجتماعية، ومن الأخطاء التي تقع فيها فئة كبيرة من القطاعات سواء المحلية وصولا للمنظمات الأممية والكيانات الدولية، هو التعويل على دور العلاقات العامة في تحسين تلك الصورة، والاعتقاد الراسخ أن أي تشوه للصورة الذهنية لدى الشرائح المستهدفة مرده إلى الفشل في تحقيق الاتصال الفعال ولا يُرد في الغالب إلى الفشل في وضع السياسات أو تطبيقها، وهو الأمر الذي يعتبر فهما جزئيا ومخلا لدور الاتصال والعلاقات العامة في تحسين الصورة الذهنية. يترتب على ذلك أن محاولات وجهود تجسير الفجوة تنصب في غالبها على جوانب تعزيز وتقوية الاتصال والدعاية، عوضا عن تحقيق النقد الذاتي وإعادة النظر بموضوعية للسياسات ولآلية تطبيق تلك السياسات، الأمر الذي يكسب شركات العلاقات العامة ويثخن جيوبها، دون تحقيق فائدة تذكر للجهات المعنية ولصورتها المشوهة، إذ لابد أن تترافق جهود تحسين الصورة الذهنية مع إجراءات فعلية على أرض الواقع، وعدم التعويل على النشاط الدعائي (وهو الخطأ الذي يقع فيه الكثيرون) في جهود تحسين تلك الصورة. إن القصور الذي يكتنف وظيفة وكالات الأمم المتحدة والشبهات التي تحوم حول كثير من قراراتها يشي بأن الصورة المنطبعة في مخيلة الكثيرين صحيحة جزئيا، وحتى مع الإقرار بالدور الفعال الذي تلعبه الأمم المتحدة في مختلف القضايا والملفات، واعترافنا أن وجودها بعلاته خير لنا من غيابها، إلا أن ذلك لا يغير من الواقع شيئاً، فالدور المنوط بها وللمنظمات والوكالات التابعة لها وأمام ما يقدم لها من دعم وما ينص عليه ميثاقها يرفع سقف التوقع ويناقض ما يتم تقديمه على أرض الواقع، ويجعل أي حسنة تقوم بها تلك المنظمات أمراً عادياً ومتوقعاً. لقد واجهت الأمم المتحدة ولاتزال عدداً من شبهات الفساد التي اتهم موظفوها بارتكابها، ومع الإقرار بحدوث تلك الإخفاقات والتجاوزات حتى في أكثر الأنظمة صرامة وانضباطا، لأن العمل الإنساني بطبيعته مشوب بالقصور، إلا أن تلك الملفات الشائكة تعطي صورة واضحة عن الأزمة التي تعيشها المنظمة بعد أن شاخت ومضى شبابها وولجت إلى سن اليأس، ما يتطلب التعامل مع الأمر بصورة أكثر واقعية. في عام 2019 واجهت منظمة الصحة العالمية تهماً خطيرة تتعلق باختلاس موظفي مكتب بعثتها الإغاثية في اليمن لأموال المساعدات التي وصلت لملايين الدولارات والتلاعب بكشوف الرواتب وضياع أطنان من الأدوية والوقود المتبرع بهم، وأمام انهيار النظام الصحي في اليمن ووضع المجاعة وموت الأطفال جوعا ومرضا، وبالنظر لتلك التهم المتعلقة بالسرقة التي ارتكبت من قبل من كان يفترض بهم إغاثة أطفال اليمن، يمكن تفهم إحباط الشعوب وسأم المانحين وشعورهم بعدم جدوى إسهاماتهم، وأن الأمر لم يعد يتعلق بجهود تحسين الصورة، بل بما هو أكبر من ذلك ما يتطلب من المنظمة المواجهة الجادة لهذا الأمر. هذا فضلا عن الخلل الذي يشوب عمل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، وتهم الفساد التي تواجه موظفيها فيما يتعلق بتوزيع أموال المساعدات، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكننا تلمس إخفاقات هيئات الأمم المتحدة، والهيئات الأممية الأخرى في عدد من الملفات، وتسيسها لقضايا حقوق الإنسان واستخدام سلطتها الرقابية للضغط على دول وغض الطرف تماماً عن ملفات أكثر أهمية وأكثر حساسية، وآخرها ما صرحت به منظمة (هيومان رايتس ووتش) على اثر قضية مطار حمد الدولي -والتي أجرت فيه دولة قطر تحقيقاً واتخذت بشأنه إجراءات قانونية صارمة-، حيث طالبت المنظمة من دولة قطر الحفاظ على حقوق الشواذ والسماح للنساء بالولادة خارج إطار الزواج، دون أن تتطرق للطفلة المرمية في دورات المياه! فأي حقوق إنسان تلك؟ الشبهات والتهم التي يواجهها عمل المنظمات الدولية لا يمكن حصرها في المقال، ناهيك عن التهم والتشكيك الذي واجه منظمة الصحة العالمية هذا العام وطريقة تعاطيها مع أزمة انتشار وباء كورونا. صحيح أن كثيراً من تلك التهم لم تكن سوى محض افتراء وادعاء أو سوء فهم، لكن في الوقت ذاته فإن كثيراً من التهم التي وُجّهت للمنظمة في هذا الشأن تستحق الوقوف عليها وعدم تجاوزها وتسخيفها. وبالعودة إلى تاريخ تأسيس منظمة الأمم المتحدة نجد أنها تأسست على أنقاض عصبة الأمم المتحدة بعد فشل الأخيرة في حل النزاعات والخلافات بين دول القارة العجوز، والتي تمخضت في النهاية عن الحرب العالمية الثانية، ولأن التاريخ يدونه المنتصر، قامت قوات الحلفاء المنتصرة في تلك الحرب بتأسيس الأمم المتحدة، إذا.. فالأمم المتحدة ليست حيلة الضعيف ليتعايش مع القوي، بل هي حيلة القوي ليخضع الضعيف دون كثير عناء ودون كبير جهد. ربما يراودنا الاعتقاد أن إنسان العصر الحديث بلغ مرحلة متقدمة من النضوج والاستنارة أو أنه بلغ أقصى درجات الوعي والتقدم، إلا أن الشواهد من حولنا تنبؤنا وبكل أسف أننا لم نبلغ تلك المرحلة بعد، وأن الطريق أمامنا قد يطول لبلوغ تلك المرحلة، وبالرغم من التطور والتقدم الذي نشهده، إلا أن التسلح النووي في أوجه، واحتمالية نشوب الحروب المدمرة التي ربما تقضي على الحضارة قائمة، فضلا عن التدمير البيئي الذي يقوم به الإنسان، وفي الوقت الذي تغلف فيه الدول القوية سلوكها بغلاف التحضر والتطور والتقدم والعيش المشترك، بصياغة المواثيق الأممية وسن القوانين الدولية، وارتداء البدل الرسمية الأنيقة، نجد أن ما يخفيه ذلك الغلاف سلوك معاكس تماماً للواقع، فلا تزال العلاقات الدولية يحكمها قانون القوة عوضاً عن قوة القانون، وأبرز مثال على ذلك حق الفيتو الذي تمتلكه الدول العظمى القوية دائمة العضوية في مجلس الأمن، وعلى الرغم من أن ميثاق الأمم المتحدة يورد هذا الحق كحق "للاعتراض"، إلا أن واقع الحال يثبت أن هذا الحق يستخدم كأداة "لإجهاض" وإفشال أي مشروع يقدم لمجلس الأمن حتى وإن وافقت عليه باقي الدول، دون إبداء سبب، كأن لسان حالها يقول (الديمقراطية ان تدع الجميع يتحدث ثم تفعل ما تريد). فهل يمكننا الشك بعد ذلك أن آلية إدارة العلاقات الدولية رغم تقدمها وانعكاساتها الإيجابية على واقعنا، قد استنفذت أغراضها، ووصلت إلى مرحلة لابد معها من إجراء التصحيح وتقويم المسار، وهل نعتبر من الدرس التاريخي الذي أثبت أن القوة التي كانت تميز الامبراطوريات لم تضمن لها طول البقاء، وانهارت تلك الامبراطوريات وغابت الشمس عن الأرض التي كانت لا تغيب عنها، وسيثبت التاريخ أيضا أن القوة المغلفة بالدبلوماسية ستفشل أيضا في تحقيق الكسب المشترك والتعايش السلمي، وأنه لابد من تصحيح المسار وعدم التعويل على القوة والجبروت، وعدم استصغار الدول صغيرة المساحة محدودة الإمكانات، لأن التاريخ أثبت أن الضخامة والتمدد كان سبباً في انهيار الامبراطوريات، وأن النملة الصغيرة ربما تزعج الفيل الضخم.

3166

| 24 ديسمبر 2020

يا نواخذ أخذوني معاكم

في صغرنا كنا نستمع إلى أغنية دائماً ما كانت تتردد على مسامعنا وتصدح بها القنوات التلفزيونية والإذاعات الخليجية، حتى أصبحت تلك الأغنية مشهورة جداً في حينها، تقول في مطلعها "يا نواخذ أخذوني معاكم، ثم اطرحوا بي على مرسى المحبين". تمثل كلمات تلك الأغنية قمة التطفل والاتكالية، فهي تصور العاشق الهائم وهو يطلب من "النواخذ" - وهي تسمية تطلق محلياً على ربابنة السفن-، أن يأخذوه معهم في رحلتهم الطويلة والمشوبة بالعمل الجاد والتعب والكدح الشاق، ليطرحوا به في طريقهم على مرسى المحبين ليتعاطى الحب ويطارح الغرام وينهل من معين العشق الناضب، وبالرغم من أن تلك الصورة فكاهية في ظاهرها، فإنها تجسد الواقع وتلامسه بشكل أو بآخر. تتبلور تلك الصورة في كثير من المجالات التي يتطفل عليها البعض لينهلوا من معينها، ويغرفوا من فوائدها دون أن يكونوا جزءاً منها، وكأن لسان حالهم يقول "يا نواخذ أخذوني معاكم"، ومن المؤسف حقاً أن تلك الظاهرة تنشط في عالمنا العربي في مجال التخصصات الإنسانية والأدب والثقافة والفن، ظناً من المتطفلين أن "النواخذ" في تلك المجالات لن يفلحوا في كشف هوية العاشق الولهان، وفي الوقت الذي لا تخلو فيه مجالات أخرى كالتخصصات العلمية الدقيقة من المتطفلين، إلا أن ذلك التطفل محدود التأثير ويجد من يحاربه على كل حال. مؤخراً صدر قرار بإلغاء فعاليات معرض الكتاب لهذا العام، بسبب تداعيات جائحة كورونا، وقد أحبط هذا القرار الكثيرين وأثار امتعاضهم، ولكن الظروف الراهنة كانت أقوى من التمنيات والتطلعات، ولو توقفنا قليلاً لتقييم تجربة معارض الكتاب، نجد أنها تجربة ثرية تقدم فائدة للقارئ العربي وتعزز رصيد المكتبة العربية وتثري المسيرة الثقافية، إلا أن أي تجربة لا تخلو بطبيعة الحال من جانب سلبي، لابد من الوقوف عليه وعدم إغفاله، فبزيارة خاطفة لأي معرض كتاب، تصطدم بأنه أصبح يعج بدور الكتب التي لا تبيع إلا دفاتر التلوين والقرطاسية، ورفوف بعضها الآخر امتلأ عن بكرة أبيه "بالروايات الواتسابية".. وأعني بها تلك الروايات التي يغلب على لغتها لغة الواتساب والمحادثات، فالكل أصبح يتجرأ على الرواية وأصبح الكل راوياً يذيل روايته بتوقيعه وإهدائه للمعجبين، روايات تفتقر لأبسط قواعد الكتابة الروائية.. فلا حبكة درامية ولا لغة سليمة، مجرد كلام مبعثر أشبه بالسيناريو منه للرواية. ومن المؤسف حقاً أننا نجد بعض كتّاب تلك النوعية من الروايات، تُعقد على شرفهم الندوات والملتقيات وجلسات القراءة، ويحظون بإشادة وتقدير "الراسخين" في الأدب والنقد، الأمر الذي يكشف لنا جلياً أن دائرة التطفل تتسع لتشمل الكثير من أولئك الراسخين أيضاً، فكيف تنطلي على بعض النقاد والأدباء الكثير من الكتابات الهشة والسطحية مع ما يشوبها من سوء اللغة وسخافة المصطلحات، ناهيك عن السرقات الأدبية وانتحال النصوص والاقتباس دون الإشارة للمصدر الأصلي!، وهو ما ينكشف جلياً وبسهولة لمجرد قراءة سريعة لبعضها. وباعتقادي فإن تلك الروايات والنصوص لم تكن لتمر على بعض المختصين إلا أن يكونوا هم أنفسهم مجرد لاعبي خفة يد وفانتازيا استطاعوا أن يقحموا أنفسهم في المجال دون أن يلحظهم أحد، وبذلك تستمر العملية في التكرار وسط حلقة مفرغة، وعلينا نحن تحمل تجرع السطحية والهشاشة، وان يبقى المثقفون والأدباء والكتاب الحقيقيون ينوؤون بأنفسهم عن هذه الفوضى العارمة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: أليس من المفترض أن تكون هناك معايير صارمة لحماية مجالات هامة كالمجالات الأدبية والثقافية والفنية من تطفل المتطفلين؟، وألا يترك الحبل على الغارب أمام المتنطعين للتسلق على جهود الآخرين أو استغفال أفراد المجتمع وإبراز أنفسهم على الساحة والحصول على ما لا يستحقونه، وكيف تمر تجاوزاتهم من هشاشة النصوص والسطو على حقوق أدبية لمؤلفين آخرين دون إجراء أو تدقيق في المحتوى، فالخطوط الحمراء تنشط في جوانب ولكنها تخفت تماماً في جوانب أخرى حساسة ومهمة. تعاني كثير من المهن والمجالات والتخصصات من ذلك التطفل، وأمام هذا الوضع ينبغي ألا يكون التعطش للإنتاج الأدبي والثقافي مسوغاً لقبول الهشاشة والضعف ودعم المتطفلين، تحت حجة البحث عمن يملأ الفراغ فقط، وبعيداً عن المناداة بتضييق الخناق أو تقليص الأفق أمام حرية الفكر الإبداع، فإنه من الضرورة بمكان وضع معايير صارمة ورقابة تحد من العشوائية والادعاء، والأمر منسحب على مجالات ومهن أخرى وليس محصوراً في الجانب الثقافي والإنتاج الأدبي فقط، فالعمل الصحافي التقليدي هو الآخر أصبح ينظر له من قبل البعض، وبكل أسف كشيء من الماضي القاحل، لا يتماشى مع روح التطور وعصر التكنولوجيا!. وللحديث عن هذا الجانب المتعلق بالصحافة التقليدية وهو حديث ذو شجون، تبرز معه آفة التطفل بشكل جلي، فالفكرة المتبلورة عن المجال الصحافي التقليدي هي فكرة مخلة جداً، فالاعتقاد بأن المنصات الحديثة والتقنيات الإلكترونية أصبحت بديلاً للصحافة الورقية هو أمر صحيح ولا غبار عليه، إلا أن ما يجهله كثيرون هو أن استخدام المنصات الحديثة والاستغناء عن الوسائل التقليدية، لا يعني بأي حال من الأحوال أنه بات بالإمكان الاستغناء عن العمل الصحافي في جوهره، أو الاستعاضة عنه بالعشوائية والتخلي عن المعايير الأخلاقية التي تنظم الصحافة، وسوء الفهم هذا أمر مستشر في عالمنا العربي بشكل كبير للأسف. في الواقع فإن التطورات التكنولوجية الحديثة أسهمت في تسهيل تطفل البعض على العمل الصحافي، دون أن يلزموا أنفسهم أو يلزمهم أحد عناء التقيد بأي معايير، فما أن يذهب الصحافي "التقليدي" لتغطية إحدى الفعاليات أو الأحداث المهمة إلا ويجد "صحافيي السوشال ميديا" يحثون الخطى أمامه يصولون ويجولون وهم ينقلون الحدث، وقد يستأثرون باهتمام ومكانة تتجاوز الدور الذي يقومون به، وهذا ما جعل البعض يجد ضالته فيهم، وأصبح لا يستغني عنهم في تغطية الأحداث، لأنهم يحققون له ما يصبو إليه من شهرة وانتشار كونهم يحظون بمتابعة الكثيرين، دون الأخذ بالاعتبار الجمهور المستهدف وطبيعة الفئة التي يستحوذ على اهتمامها ذلك "الصحافي"، الذي نحل لنفسه مسمى "إعلامي" للتخفف من الالتزام الذي ينظم مهنة الصحافة!، ليذهب بعد أن ينجز عمله الصحافي ويحصل على أجره الكبير نظير جهوده التي بذلها، ليقدم لمتابعيه المتعطشين والمستوعبين لكل شيء إعلانات تجارية لمطاهم ومقاه وغيرها من مرافق الترفيه والمتعة. لقد أدى هذا الوضع إلى عزوف الكثيرين عن إتباع السبل المنظمة لولوج أي مجال، وطالما بقي الباب مفتوحاً على مصراعيه، سيجد البعض أن سبل التطفل على المجال أسهل من اتباع المعايير والقواعد السليمة التي تنظم المهن والتخصصات، ومع غياب إجراءات صارمة لتنظيم وتطبيق تلك القواعد، فإننا سنواجه لا محالة فوضى تكتسح مجالات مهمة وتضعف مخرجاتها. وأمام هذه المعطيات تبرز أهمية إعادة النظر في التعامل مع الواقع بجدية أكبر، ووضع معايير أكثر تنظيماً لمختلف المجالات، وعدم التهاون في إجازة النصوص والروايات، وعدم السماح بطباعتها وتوزيعها دون التدقيق في محتواها، كما ينبغي أن يكون هناك تنظيم لمختلف المجالات ووضع معايير وتعريف لها وتصنيف العاملين فيها وإجازتهم، حتى لا يأتي علينا يوم نذهب فيه إلى معرض الكتاب لتلوين وجوه أطفالنا وشراء القهوة والتصوير مع المشاهير، وشراء رواية أو كتاب لا تساوي قيمته الورق المطبوع عليه، ولا يقدم محتواه أي فائدة تذكر، بل إنه قد يسهم في تسطيح الفكر والانحدار بذائقة القارئ العربي، ليدندن بينه وبين نفسه ويردد هو الآخر "يا نواخذ أخذوني معاكم ... هيلا هيلا".

4831

| 10 ديسمبر 2020

أوتا بينغا.. شاهد على توحش الإنسان

أوتا بينغا شاب أفريقي كان يعيش في الأراضي التي كانت تسمى يوما "الكونغو البلجيكية"، ينتمي لشعب مبوتي إحدى مجموعات الأقزام التي تقطن تلك الأراضي، ويعني اسمه في لغته المحلية "الصديق"، كان أباً لطفلين، لم يتجاوز الحادية والعشرين من العمر، يعيش حياة هانئة مستقرة، لم يكن في المنزل عندما وقعت الفاجعة التي قلبت حياته رأساً على عقب، في العام 1904، إذ كان في رحلته اليومية للبحث عن طعام يطعم به عائلته الصغيرة. عاد أوتا بينغا الذي لا يتجاوز طوله مترا ونصف المتر إلى قريته حاملاً معه الطعام لأسرته، فوجد زوجته وطفليه صرعى مضرجين بدمائهم مع كل أفراد مجموعته من الأقزام، فقد تعرضوا لهجوم وحشي وإبادة جماعية على يد مجموعة من المستعمرين، بعد رفضهم العمل في مزارع المطاط، فقضوا عليهم وأبادوهم عن بكرة أبيهم، ولم ينجُ منهم سوى قلة من الذين كانوا برفقة أوتا بينغا خارج القرية، فتم أسرهم واقتيادهم نحو المجهول. في تلك الأثناء، كان المبشر الأمريكي صموئيل فيليبس فيرنر، الذي تحول إلى مستكشف يجوب الأرجاء والمستعمرات بحثا عن حيوانات غريبة يتاجر بها، في مهمة استكشافية في الكونغو، كُلف بها من قبل العالم ويليام جون ماكجي، المتخصص في علوم الانثروبولوجيا، بهدف العثور على "الحلقة المفقودة" وجلبها معه الى الولايات المتحدة الأمريكية. وبعد أن شاهد المبشر صموئيل أوتا بينغا شعر أنه وجد ضالته فاشتراه من مرتكبي المجزرة من المستعمرين بثمن بخس، ولم يدفع ثمنه بالمال، بل بكمية قليلة من الملح! وعاد به في قفص كالحيوان الى الولايات المتحدة، حيث تم عرضه في معرض سانت لويس العالمي في ميزوري الذي أقيم بهدف استعراض الأجناس ورسم خارطة لتطور الإنسان، فتقرر أن يتم وضع أوتا بينغا في أدنى مراتب الإنسانية ليكون شاهداً على توحش الشعوب البربرية البعيدة والغريبة ودليلاً على صحة نظرية التطور، و تم تقديمه للجمهور كالحلقة المفقودة بين القرد والإنسان!. اجتذب المعرض 20 مليون زائر جاؤوا ملؤهم الشغف لمشاهدة أوتا بينغا المتوحش والبدائي، وما دعّم تلك النظرة عنه، أسنانه المنحوتة والحادة والتي بدت كالأنياب وهي ممارسة كانت شائعة لدى قبائل الكونغو، فتم تصويره كأحد آكلي لحوم البشر، وهو لم يكن كذلك. في نهاية المعرض تم تكريم صموئيل فيليبس فيرنر نظير جهوده الانثروبولوجية في اكتشاف الحلقة المفقودة وإسهامه المهم والكبير في إثراء الحقل العلمي. وبعد عامين من المعرض ولعدم استطاعة صموئيل إطعام أوتا بينغا البائس، قام بإعارته لحديقة حيوان "برونكس" في مدينة نيويورك ليوضع في قفص للقرود، جنباً الى جنب مع الشمبانزي، ليظهر كسلف قديم للإنسان، ونجح أوتا بينغا في اجتذاب 40 ألف متفرج جاؤوا لمشاهدة ماضيهم الغابر في هذا الإنسان الضعيف، إلى أن تصاعدت الاحتجاجات والانتقادات عبر الصحافة، والتي قادها الأمريكيون السود في البداية، لتنتشر لاحقا في الصحافة الشعبية، منددة بذلك الفعل والسلوك، والذي وصفته بالسوك الوحشي الذي لا ينبغي على دولة متحضرة أن تمارسه. قبل مائة عام وإبان حقبة الاستعمار كانت تلك الممارسات أمراً شائعا ومقبولاً، وقد استمرت منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، فكان يؤتى بالسكان الأصليين من المستعمرات في أفريقيا واستراليا وشتى أصقاع العالم التي وطأتها قدم المستعمر، ليتم وضعهم في ما يسمى بـ"حدائق الحيوان البشرية" في أوروبا والولايات المتحدة، جنبا إلى جنب مع مختلف أنواع الحيوانات. وبجانب الوضع المزري والذل الذي كان يتعرض له أولئك البشر، كانوا يرغمون على أداء أدوار مسرحية لا تتوافق مع واقعهم الفعلي، فكانوا يقومون بأداء عروض تظهرهم بمظهر بدائي متوحش أو آكلي لحوم البشر، في عملية يبرر من خلالها الأوروبي استعماره لأفريقيا، ويبرز التفوق المزعوم للعرق الأبيض. تعطينا تلك القصص التي سجل التاريخ نزراً يسيراً منها، وضاعت الغالبية العظمى من تلك الوقائع المأساوية والوحشية ولم تحفظها ذاكرة التاريخ وطواها النسيان، دليلاً شاخصا على المدى الذي من الممكن أن تصل إليه قسوة الإنسان تجاه أخيه الإنسان، وفي الوقت الذي سجل لنا التاريخ بعضا من تلك البشاعات والقصص التي تحكي قسوة المستعمر وما مارسه من إبادة جماعية واستعباد، نجد أن إنسان ذلك الوقت كان يظن أنه بلغ أوج الحضارة والتحضر، وأنه بفعله ذاك كان ينشر التطور والتقدم، مزهوا بمنتجاته الحضارية وآلاته البخارية التي ابتكرها للتو، متباهياً باستخدامه للأسلحة النارية التي قلبت موازين القوى ليطوع بها بني جنسه، ويستعبده و يفنيه، إلا أننا في الوقت الراهن عندما نسترجع تلك الأحداث والقصص تلوح لنا كشواهد خالدة على انحدار الإنسانية إلى أبشع صورها، يرافقها الندم والاعتراف بالذنب، ومحاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه. في ما مضى كانت العبودية أمراً عادياً تجد من الأعذار والحجج التي يبرع الإنسان في اختلاقها ما يبررها ويقننها، فحتى وقت قريب نسبياً كان العبيد يشحنون من المستعمرات الأفريقية في السفن مكومين في وضع غير مقبول، لا يسمح به حاليا حتى للبهائم، مكبلي الأيدي والأقدام، ليُعبر بهم المحيط الأطلسي نحو العالم الجديد، فينجو من ينجو ويموت الغالبية منهم فيلقون في البحر طعاما للأسماك، وتشير تقديرات إلى أن عدد العبيد الذين تم شحنهم في سفن الموت تلك، يفوق اثنى عشر مليون إنسان، في حين يقدر البعض أن عددهم يفوق هذا الرقم بكثير. عندما نتأمل تلك الوقائع والأحداث، وما أفرزته من وجهات نظر تجاهها في ذلك الوقت ونقارنها بتقييمنا لها حاليا نجد تباينا كبيرا في الأحكام. وأمام إقرارنا بذنب الإنسانية حينها، يتبادر إلى الذهن سؤال مهم، وهو: هل نضمن أن تصرفاتنا المعاصرة والمقبولة حالياً لن يُحكم عليها مستقبلاً بالهمجية والبربرية، وستندم عليها الإنسانية حينها؟ يظن الإنسان أن الحضارة القائمة وما يترافق معها من مظاهر التقدم والتطور بلغت منتهاها، وأن البشرية وصلت الى النضوج الكافي والتطور الفكري التام، وأن الإنسان لم يعد بحاجة لمراجعة القيم التي تؤطر أفعاله وتحكم واقعه وحياته، إلا أن الأمر لا يبدو كذلك للأسف، فالمتأمل للواقع يجد أن كثيرا من السلوكيات البشرية التي تمارس في إطار الحضارة والتقدم، تشي بأننا سنندم عليها مستقبلاً وسيدينها أحفادنا ويخجلون من ذكرها، وستكون تركة ثقيلة نورثها لهم. تعاني حضارتنا الصناعية الفاتنة، بالرغم مما تقدمه لنا من فوائد ومغريات، من خلل كبير يكشف لنا أن الحضارات لا تسلك طريقاً ذا اتجاه واحد بالضرورة، ولا ترتقي المراتب نحو العُلا حتمياً، وأنه دون أن يعي ويتنبه الإنسان لذلك، فإنه مهدد بالفناء وبانهيار حضارته في أي لحظة. إن السلوكيات المشينة التي يبررها إنسان العصر الحديث من قتل ودمار وحروب، تبين بشكل جلي أنه لم يصل بعد إلى مرحلة النضوج والاستنارة الفكرية، وطالما أننا نقتل بعضنا بعضا لأسباب واهية، وطالما يوجد في العالم جياع في الوقت الذي يعاني فيه آخرون من السمنة المفرطة الى درجة الموت من مضاعفات الشبع، وفي الوقت الذي يستحوذ (1%) من سكان العالم على 50 % من ثرواته في حين يتقاسم الـ 99% النصف الباقي، فلا شك أنه لا يزال بيننا وبين النضوج الإنساني بون شاسع. من بين المخلوقات التي تشاركنا الكوكب وتعاني منا أشد معاناة من تدمير لبيئتها والقضاء على سلالاتها لأسباب واهية، فإن الانسان هو الكائن الوحيد من بينها الذي يقوم بقتل بني جنسه لأسباب تافهة، فالحيوان لا يقتل أخاه في"الحيوانية" إلا لسبب وجيه "حيوانياً" كالدفاع عن النفس او لردء خطر محدق، في حين قد يقتل الإنسان أخاه الإنسان لاختلاف لونه أو عرقه أو دينه! او حتى عندما يختلف معه في وجهات النظر! كما أنه لا يوجد من بين المخلوقات من يقوم بتدمير بيئته بمحض إرادته سوى الإنسان، فيلوثها ويضرم النيران فيها ويستنزف ثرواتها ويجفف أنهارها وينابيعها، ويهلك حرثها ونسلها. ومن يعلم ربما يأتي يوم من الأيام تندم فيه الإنسانية على ما مارسته من سلوك تجاه الحيوانات من قتل وتعذيب وإبادة واحتجاز، كما تندم اليوم على ما قامت به تجاه أوتا بينغا. علاوة على ذلك، فإن إنسان اليوم الذي يظن أنه بلغ مرحلة النضوج الكافية، مهووس بالتسلح ليحمي نفسه من بني جنسه، وكذلك يفعل الآخرون من بني جنسه، الكل يحاول امتلاك أسلحة الدمار الشامل خوفاً على نفسه من الآخر، وهم جميعاً يعلمون يقيناً ويعرفون تمام المعرفة، أن تلك الأسلحة، التي من المفترض أن تحمي الإنسان، لو أنها استخدمت لأبيدت البشرية برمتها. يقول العالم الشهير آينشتاين: أنا لا أعرف بأي أسلحة ستخاض الحرب العالمية الثالثة، ولكن الحرب العالمية الرابعة ستخاض بالعصي والحجارة، في حين يرى المفكر الأمريكي البارز نعوم تشومسكي أن العالم مصمم على السقوط نحو الهاوية. مازال أمام الإنسان مشوار قد يطول حتى يصل للحكمة التي ستبقيه متفوقاً وسيداً على العالم، ومن دون النظر لواقعنا بنظرة موضوعية جادة، فإن مسيرتنا لبلوغ أوج الحضارة ليست حتمية التحقق، وسنبقى دائماً مهددين بالانتكاس ورجوع القهقرى، في أي وقت، وستظل حضارتنا التي نراها مستقرة ومستمرة في الصعود الى أعلى، قاب قوسين أو أدنى من السقوط في الهاوية في أي وقت، وحينها لن ينفع الندم. لقد أثمر الضغط الشعبي الذي مارسته الصحافة في الولايات المتحدة إلى تنبيه الرأي العام لقضية أوتا بينغا، ونجحت تلك المساعي في إطلاق سراحه وإخراجه من حديقة الحيوان إلى عالم البشر، وتم إلحاقه في البداية بدار للأيتام تتبع للكنيسة، حتى بدأ في تلقي التعليم النظامي وتعلم الانجليزية واستطاع أن يتحدث بها، ونجح في الحصول على وظيفة كعامل في مصنع للسجائر، وكان حينها محط أنظار الجميع يتسمر حوله زملاؤه في العمل في أوقات الاستراحه لسماع قصته المأساوية ليروحوا عن أنفسهم ويسلوا خواطرهم، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى فقد أوتا بينغا الأمل الذي كان يحدوه بالعودة الى موطنه ومسقط رأسه على ضفاف نهر كاساي في "الكونغو"، فسرق مسدسا وأطلق النار على قلبه ومات منتحرا بعد اثنى عشر عاماً من الأسى والعذاب وهو يناهز من العمر الثانية والثلاثين، ودفن ودفنت معه قصة مأساوية تحكي فصلاً مظلماً من تاريخ الإنسانية الغربية، وتروي جزءاً يسيراً من قسوة المستعمر، وتدلل على أن الذين جاؤوا من كل حدب وصوب ليحدقوا في أوتا بينغا وهو قابع في قفص بجوار الحيوانات فشلوا في رؤية الإنسان في داخله ولم يلحظوا بريق الإنسانية الذي يشع من عينيه.

4454

| 19 نوفمبر 2020

alsharq
طيورٌ من حديد

المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع...

2781

| 28 أكتوبر 2025

alsharq
المدرجات تبكي فراق الجماهير

كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق...

2472

| 30 أكتوبر 2025

alsharq
انخفاض معدلات المواليد في قطر.. وبعض الحلول 2-2

اطلعت على الكثير من التعليقات حول موضوع المقال...

1779

| 03 نوفمبر 2025

alsharq
طال ليلك أيها الحاسد

نعم… طال ليلك ونهارك أيها الحاسد. وطالت أوقاتك...

1467

| 30 أكتوبر 2025

alsharq
حين يوقظك الموت قبل أن تموت

في زحمة الحياة اليومية، ونحن نركض خلف لقمة...

1107

| 29 أكتوبر 2025

alsharq
من المسؤول؟

أحيانًا أسمع أولياء أمور أطفال ذوي الإعاقة يتحدثون...

732

| 30 أكتوبر 2025

alsharq
مِن أدوات الصهيونية في هدم الأسرة

ما من ريبٍ أن الحلم الصهيوني لم يكن...

729

| 02 نوفمبر 2025

alsharq
الشعبوي.. كظاهرة صوتية

من الشيق استرجاع حدث سابق تم تحليل واقعه...

690

| 28 أكتوبر 2025

alsharq
بعد آخر توقيع... تبدأ الحكاية

ليست كل النهايات نهاية، فبعضها بداية في ثوب...

690

| 29 أكتوبر 2025

alsharq
الإزعاج الصوتي.. تعدٍ على الهدوء والهوية

في السنوات الأخيرة، أصبحت الأغاني تصدح في كل...

639

| 30 أكتوبر 2025

alsharq
المقامة الكَوّارية عن الصمدة القطرية في مكتبة قطر الوطنية

الحمدُ للذي أنطقَ اللسان، وجعل للكلمةِ سُلطانا وللبيانِ...

582

| 02 نوفمبر 2025

alsharq
عمرانٌ بلا روح: كيف نخسر هويتنا في سباق التنمية؟

نقف اليوم أمام صروحٍ زجاجية تناطح السحاب، ونمشي...

555

| 29 أكتوبر 2025

أخبار محلية