رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
فيما أسمته إدارة ترامب «يوم التحرير» أعلن الرئيس الأمريكي عن فرض تعريفات جمركية على واردات جميع دول العالم بنسبة 10 % دون استثناء. علاوة على فرض تعريفات إضافية فوق لـ 10% بحسب نسبة صادرات الدولة إلى الولايات المتحدة. وكان نصيب الصين هو الأعلى بنسبة 34 % إضافة إلى التعريفات السابقة 20 %، وجميع حلفاء أمريكا التاريخيين لم يستثنوا من التعريفات المرتفعة فنصيب أوروبا بلغ 20 %، واليابان 34 %، وسويسرا نحو 40 %، وفيتنام نحو 46 %. مبررات ترامب وعشوائية المنطق والحسابات في يوم التحرير هذا الذي شن فيه ترامب حربا تجارية على العالم كله؛ قال ترامب ما مفاده إن اليوم قد تحققت العدالة الغائبة لعقود بفرض التعريفات الجمركية لأن الأعداء والأصدقاء كانوا يسرقون أمريكا لمدة 50 عاما. فالتعريفات وفقا لترامب ستحقق التوازن الناجم عن تلاعب الدول المصدرة في سعر العملة، والقيود التي تفرضها على الواردات الأمريكية، وعدم استيراد منتجات أمريكية بكميات متكافئة، وهذا في معظمه غير صحيح. وعلى هذا الأساس، فرضت إدارة ترامب التعريفات بصورة يغلب عليها عشوائية غير مسبوقة اقتصادياً، حيث يتم حساب عجز الميزان التجاري مقسوما على صادرات الدولة إلى الولايات المتحدة ثم يتم تخفيضه إلى النصف. وبناء على تلك الحسبة العشوائية، فرضت التعريفات بصورة غير عادلة حيث فرضت تعريفات قاسية على دول صافى صادراتها إلى الولايات المتحدة محدود مقارنة بدول أخرى. وبعيدا عن عشوائية فرض التعريفات؛ يرى ترامب بصورة عامة منذ ولايته الأولى، أن الولايات المتحدة تعانى من عجز تجارى خطير يهدد اقتصاد أمريكا، بل ويهدد سيادتها أيضا. ومن هذا المنطلق، ارتأى ترامب أن فرض التعريفات الجمركية من شأنه: تخفيض العجز التجاري، زيادة الصادرات الأمريكية، تعزيز توطين الصناعات الأمريكية-أحد أهدافه الرئيسية-، إضعاف اقتصاد الخصوم خاصة الصين. على الرغم من أهداف ترامب الموضوعية صراحة؛ فإن تشديد التعريفات الجمركية لن تحقق تلك الأهداف، بل ستلحق بالولايات المتحدة قبل العالم أضرارا في غاية السوء. إذ يمكن سقوط الاقتصاد الأمريكي رهينة لعجز تجارى فادح، وحجم ديون كارثية خاصة للصين. والهشاشة البالغة للصناعة الأمريكية في معظم القطاعات الاستراتيجية، وهروب الشركات الأمريكية إلى الأسواق الناشئة في آسيا. هو في واقع الأمر نتاج العولمة الاقتصادية وحرية التجارة العالمية التي قادتها وكرستها الولايات المتحدة. وبالتالي، فالنتيجة الحتمية كما يجمع الخبراء من فرض التعريفات الجمركية هو ارتفاع التضخم داخل الولايات المتحدة بمعدلات خطيرة. فالولايات المتحدة تعتمد على الخارج بنسبة تفوق 70 % لسد احتياجاتها الداخلية. إذ حتى الشركات العاملة داخل الولايات المتحدة تعتمد على الخارج أيضا خاصة الصين لسد احتياجاتها التشغيلية، وهو ما قد يؤدى إلى هروبها للخارج. وعليه، فالمعالجة الصحيحة كما يرتأى الخبراء تعتمد على استراتيجيات أخرى غير التعريفة الجمركية وغالبا ستكون بطيئة وتدريجية، مثل تهيئة البيئة الاستثمارية كتخفيض الضرائب لتعزيز توطين الصناعات المحلية، وجلب استثمارات خارجية. تبعات فوضوية خطيرة السوق الأمريكي قبل الاقتصاد الأمريكي سوق مركزي عالمي رئيسي، حيث تجنى منه معظم دول العالم خاصة الصين والاتحاد الأوروبي والمكسيك وكندا، أرباحاً طائلة نتاج ضعف الإنتاج الأمريكي. ومن ثم، ستصيب هذه التعريفات الاقتصاد العالمي برمته في مقتل، علاوة على حالة الفوضى العارمة الناجمة عنها. حيث ارتفاعات قياسية في التضخم في العالم، علاوة على أسعار الشحن والتوريد، وضعف الإنتاجية، وغلق شركات كثيرة لن تقوى على المنافسة. فضلا عن اختلال خطير في حركة التجارة والأموال العالمية، إذ ستضطر البنوك العالمية والشركات الكبرى إلى إجراء إعادة هيكلة شاملة لمواكبة هذه التغيرات الخطيرة. مع إحجام متوقع عن الاستثمار، والهروب إلى الملاذات الآمنة خاصة الذهب الذي سيشهد ارتفاعات قياسية غير مسبوقة. وعلى الجانب السياسي والجيواستراتيجى تكمن التبعات الأخطر، وبدأت بوادر هذه التبعات خلال ساعات من فرض التعريفات الجمركية وهو ما تبدى من فرض دول أخرى ككندا تعريفات رداً بالمثل، وهو مؤشر خطير على تنامي الحمائية التجارية، وتقويض العولمة الاقتصادية العالمية. ولعل الجانب الأخطر على الإطلاق، هو حرب التعريفات المتبادلة القادمة بين الصين والولايات المتحدة؛ وهذا في حد ذاته يشل الاقتصاد العالمي، ويتسبب في فوضى عالمية شاملة. ناهيك عن ذلك، ستؤدى قطعا إلى تشكيل تحالف عالمي بقيادة الصين يضم جميع حلفاء واشنطن خاصة أوروبا للتصدي لترامب. في التقدير الأخير، لا يمكن وصف حرب ترامب التجارية على العالم إلا بأنها حرب عشوائية ليس لها داعٍ ستجلب فوضى عامة في العالم، ستؤدى إلى تصاعد حروب تجارية أعنف، قد تتطور إلى حروب عسكرية. وفوق كل ذلك، تعد الولايات المتحدة أكبر الخاسرين منها.
681
| 06 أبريل 2025
بعدما وعد بإنهاء الحرب الأوكرانية خلال 24 ساعة بعد وصوله للبيت الأبيض، اكتشف ترامب بعد أول محاولة لكسر جبل الجليد بين روسيا وأوكرانيا، أنه أمام أكبر تحد سيواجهه خلال ولايته الجديدة. بدأت مساعي ترامب بإنهاء الحرب بتصريحات مفادها الاتفاق مع أوكرانيا على صفقة المعادن النادرة، بالتوازي مع تصريحات أشار فيها بانفتاح بوتين على المفاوضات. وقد تلى ذلك، لقاؤه التاريخي مع زيلانيسكى في البيت الأبيض، الذى أسفر إلى طرده من البيت الأبيض، وإلغاء اتفاق المعادن. وفى غضون أقل من شهر تم الاتفاق على هدنة لمدة 30 يوما بين روسيا وأوكرانيا تم التركيز فيها على عدم التعرض لمنشآت الطاقة تحديدا، انهارت خلال يومين. ومؤخراً تم التوصل إلى اتفاق هدنة آخر عبارة عن جزأين منفصلين يتعلق الأول بالملاحة بسلام في البحر الأسود، والثاني عدم التعرض للمنشآت النفطية. وكحال اتفاق الهدنة الأول، فمن المرجح على نحو كبير انهيار الثاني الذى تم بجهود سعودية؛ وذلك بسبب التسرع في الاتفاق عليه، والأهم من ذلك هو الموافقة المبدئية غير الجازمة لموسكو عليه لأسباب فنية وتكتيكية واستراتيجية. ويشي ذلك أن مجرد الاتفاق فقط على هدنة كتمهيد لمفاوضات حاسمة لإنهاء الحرب، قد أصبح في حد ذاته تحدياً كبيراً. وخلف ذلك يتبدى مدى تعقد الحرب القائمة منذ 3سنوات، وأن إمكانية إنهائها قد أصبح محل شك كبير. على الرغم من المرونة الشديدة لترامب في مفاوضاته مع روسيا لإنهاء الحرب، حيث اتضح تماماً رغبته في سرعة إنهائها لصالح روسيا تقريبا، ويقدم في سبيل ذلك تنازلات جوهرية التعهد بعد انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، والموافقة على سيادة لروسيا على الأراضي التي انتزعتها من أوكرانيا. ومع ذلك، فلايزال أمام إنهاء الحرب الكثير من التحديات الوعرة. خرجت أصوات من داخل واشنطن واصفة بوتين بالمتطرف إثر شروطه التعجيزية التي يفرضها على الولايات المتحدة لإنهاء الحرب. إذ لم يكتف فقط بتنازلات ترامب، بل يطالب أيضا بنزع سلاح أوكرانيا، وإيقاف الدعم الغربي لها بكافة أشكاله. والمفارقة هنا أن هذه المطالب يقوم بفرضها عند اتفاقات الهدن، كمسوغ لاختراقها بسهولة. ومن هنا يظهر التحدي الرئيسي الذى يواجه إنهاء الحرب والكامن في عدم قبول المجموعة الأوروبية لفكرة نزع سلاح أوكرانيا وتوقف الدعم عنها. إذ بالكاد يوافقون على تقديم ضمانات لعدم ضم أوكرانيا للناتو، ويرون أنها فكرة غير عملية. لكن ما هو أخطر من ذلك، قد أظهر الأوروبيون بقيادة بريطانيا بعد لقاء ترامب العاصف مع زيلانيسكى؛ أنهم على استعداد تام لاستمرار الحرب دون الولايات المتحدة وانطلقواً في تأسيس ما يسمى «تحالف الراغبين» كنواة لكتلة عسكرية أوروبية موازية للناتو. وهذا التطور بالقطع يخرج عن نطاق سيطرة ترامب، ويدفع الحرب الأوكرانية لمزيد من التطور الدراماتيكي. بل ربما يخرج واشنطن من معادلة الصراع بالأساس حيث إنه صراع أوروبي في الصميم. وفى الخلفية يدرك بوتين أن قوة فرض واشنطن إرادتها على أوروبا لها حدود، تتوقف عندما تشعر أوروبا بخطر وجودي مثل روسيا. شن بوتين الحرب على أوكرانيا دون تحديد واضح لأهدافه الكاملة منها، لكن على الأقل هناك أهداف واضحة منها معاقبة أوروبا على التفكير في ضم أوكرانيا للناتو، ووقف غربنة أوكرانيا ومعاقبتها على ذلك، وضمان تأمين أخطر منطقة يتم من خلالها اختراق الأمن القومي الروسي، وضم جميع المناطق الموالية لروسيا، وتأمين الهيمنة الدائمة على شبه جزيرة القرم. مقابل ذلك، شكل بايدن تحالفا أوروبيا قويا لردع موسكو واستنزافها تكلف قرابة الـ 100 مليار دولار. وبالتالي، فمن غير المتصور أن تنتهى الحرب بالسهولة والسرعة التي يتصورها ترامب، ودون مراعاة لأمن ومصالح أطرافها الرئيسية أوكرانيا وأوروبا. مقابل ذلك، فمن غير المتصور أيضا أن يوافق بوتين على صفقة لإنهاء الحرب دون تحقيق الحد الأدنى من أهدافها؛ هذا بخلاف الأهداف الكبرى غير المعلنة والتي تبدأ فيما يبدو بنزع سلاح أوكرانيا كنواة لهيمنة روسية تامة على شرق أوروبا حتى أبواب برلين. خلاصة الأمر، إنهاء الحرب الأوكرانية بات مسألة في غاية التعقيد، وعلى الأرجح سيحتاج سنوات، وتصور ترامب لإنهائها السريع محض خيال. إذ لن تقبل أوكرانيا ومعها أوروبا إنهاء الحرب دون ضمانات أمنية قوية لأوكرانيا ربما أقوى من السابق، وانسحاب موسكو من جميع الأراضي التي احتلتها، إذ من الصعب الوثوق في بوتين، وتقديم تنازلات غير مشروطة سيؤدى به إلى المطالبة بالمزيد.
858
| 30 مارس 2025
بعد هدنة يمكن اعتبارها هشة دامت نحو شهرين، عاودت إسرائيل حملتها العسكرية العنيفة على قطاع غزة في الثامن عشر من شهر مارس. ومن حيث المبدأ لا يستبعد عن إسرائيل النكوص عن تعهداتها واختراق الاتفاقات؛ ومع ذلك يحمل اختراق الهدنة الراهنة قدراً كبيراً من المفاجأة في ظل التقدم الواسع في عمليات تسليم الرهائن وجهود الوساطة الجبارة التي تقودها قطر ومصر. جددت إسرائيل العمليات على القطاع تحت ذريعة رئيسية وهي عدم جدية حماس في مفاوضات تسليم الرهائن، والتي جرت المرحلة الثانية لها بصورة مباشرة بين إدارة ترامب وحماس، ويتبدى من تفاصيلها المحدودة شروط إذعان قاسية فرضها ترامب على حماس. والثانية هي عدم احترام حماس لاتفاق الهدنة من خلال استئناف العمليات العسكرية ضد إسرائيل. وتلك هي الذرائع التي لا تبرر بالقطع استئناف العمليات بالصورة الوحشية التي راح ضحيتها حتى الآن ما يربو من ألف شهيد فلسطيني. * ومن ثم، ثمة أسباب قوية دافعة لتجدد العمليات تندرج في مستويين: - الأول-قصيرة الأمد أو التكتيكية وعلى رأسها: الضغوط الداخلية الشديدة التي يواجهها نتنياهو، ونرى أنها الباعث الأساسي المحرك لتجدد العمليات. يواجه نتنياهو مشكلتين كبيرتين: الأولى وهى الملاحقات القضائية بشان تهم فساد شبه مؤكدة، كذلك وهى الأخطر ملاحقات قضائية متوقعة حول التقصير الأمني الذي أدى إلى «طوفان الأقصى». والثانية تتعلق بضغوط أقصى اليمين المتطرف عليه سواء داخل حكومته أو خارجها. مما يعني أنه في جميع الحالات يواجه نتنياهو تهديداً خطيراً بانهيار حكومته في أي وقت-وسيكون انهيارا تاما لحياته السياسية- ومن ثم البقاء ما تبقى له في الحياة في غياهب أروقة القضاء. وبالتالي، فاستمرار الحرب العنيفة في غزة تمثل طوق النجاة له لتمديد بقائه في السلطة إلى أطول فترة ممكنة خاصة مع إمكانية تمديد الحرب على جنوب لبنان وعلى الحوثيين. فقبل تجديد العمليات في غزة بخمسة أيام فقط، طلب نتنياهو من النيابة العامة الإسرائيلية تأجيل محاكمته بسبب استئناف العمليات في غزة، وقد وافقت النيابة على طلبه. والذي لا يقل أهمية على هذا وبات أمر ماسا لاستمرار بقائه في السلطة، وتقوية حكومته هو إرضاء أقصى اليمين المتطرف الرافض لتوقف العمليات في غزة وصفقة تبادل الرهائن مع حماس. فمع بداية المرحلة الأولى للمفاوضات مع حماس، استقال المتعصب «بن غفير» من حكومة نتنياهو احتجاجا على وقف إطلاق النار في غزة، والتفاوض مع حماس. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل هدد باقي أفراد اليمين المتطرف في حكومته بالاستقالة أكثر من مرة، كان آخرها تهديد «سومتريتش» الأكثر تعصباً وزير المالية بالاستقالة إذا لم يتم توقيف المفاوضات مع حماس مع شرط تجدد الحرب في غزة. وعلى إثر ذلك، لم يأت رضوخ نتنياهو في تجدد العمليات فحسب، بل في عودة «بن غفير» للحكومة مجددا، لتعاد إلى حكومته التماسك القوي المطلوب لبقائها أطول فترة ممكنة. - الثانية-طويلة الأجل: الفعلية الحاسمة. يدرك الجميع تمام الإدراك بما في ذلك بالقطع الوسطاء الرئيسيون قطر ومصر ؛ أن مرمى إسرائيل الفعلي النهائي هو تنفيذ مخطط التهجير الذي أصبح مطلبا واضحا علنيا بدعم الولايات المتحدة. وبقطع النظر عن صعوبة تحقيق المخطط؛ فإسرائيل ماضية فيه بصورة عبثة حتى ولو امتد التنفيذ لسنوات. والحقيقة أن المرحلة الأولى الرئيسية لتنفيذ المخطط حتى على المد الطويل هو القضاء على حكم حماس في القطاع جنبا إلى جنب استمرار الضغط على سكان القطاع للقبول طوعا أو ارغاما بالمخطط. وبالتالي، فمن البديهي أن حرب الإبادة الصهيونية على القطاع لن تتوقف في ظل وجود نتنياهو من عدمه. ويبقى هدف الوسطاء الرئيسي أولاً الحد من قتل المدنيين في القطاع إلى اقصى قدر ممكن، ثانيا استمرار الضغط على الأطراف المتداخلة خاصة واشنطن لعودة المفاوضات على أساس حل الدولتين أملاً في إثناء إسرائيل عن المخطط، أو إضعافه وإرجائه إلى أقصى حد ممكن. * والأمر الهام في هذا الصدد أيضا، أن تجدد العمليات ليست بمعزل عن مرمى إسرائيل الثاني الأهم وهو تقويض إيران. إذ ترى إسرائيل في حماس ذرائع إيرانية لابد من تدميرها بالتوازي مع باقي الأذرع الأخرى خاصة الحوثيين، تمهيدا للضغط عليها في صفقة إذعان يقودها ترامب تتمحور حول القبول بالتفكيك الطوعي للبرنامج النووي أو تحطيمه عسكرياً. وفي التقدير الأخير، وإن كان تجدد العمليات على غزة كان مفاجئا بعض الشيء، إلا أنه متوقعاً على أية حال. ومع العودة القوية لليمين المتطرف لحكومة نتنياهو جنبا إلى جنب أهداف إسرائيل بعيدة المدى الحاسمة؛ فمن المرجح على نحو كبير استمرار العمليات في غزة وربما بصورة أقوى، وقد تتخللها فترات قصيرة من الهدن الهشة.
819
| 25 مارس 2025
طفت إيران على السطح بقوة وبسرعة في ترتيبات أولويات ترامب، على عكس ما كان متوقعا بسبب أولوية الحرب الأوكرانية والصين والحرب التجارية. والشاهد في الأمر هو عدم انعراج سياسة ترامب المتوقعة تجاه طهران والتي تتخلص في أمرين إما التفاوض على إنهاء البرنامج النووي، أو المواجهة العسكرية. في الأسابيع القليلة الماضية بادر ترامب طهران بالتفاوض لإنهاء البرنامج النووي، وجاءه رفض مبدئي من طهران، ثم وقع على مذكرة لإعادة إحياء "العقوبات القصوى" لكنها أشد ضراوة عن السابق، حيث تضمنت إلغاء الإعفاء الذى كان مسموحا للعراق باستيراد الغاز من إيران، والعمل على منع تصدير النفط "تصفير شامل" لحلفاء طهران وخاصة الصين، وأيضا الحيلولة التامة دون تهرب طهران من العقوبات المالية بوسائل غير مباشرة. ومن المفارقة أن تجديد دعوة ترامب لطهران للتفاوض مرة أخرى بعد هذا الإحياء، قد قوبلت من الرفض أولا من جانب المرشد الأعلى، ثم باقي مسؤولي طهران الذين عبروا عن رفضهم للتفاوض تحت وطأة الضغط، كما عبروا عن أيضا عن عدم ثقة إيران في التفاوض مع واشنطن. وهو ما دفع ترامب وإدارته من وقتها للاستمرار في استخدام نفس العبارة تقريبا "إما التفاوض، أو المواجهة العسكرية". ويتبدى مما سبق أولا سعى ترامب لإبرام اتفاق مع طهران تتخلى بموجبه عن برنامجها النووي دون شروط، أي يكاد يكون اتفاق "استسلام". والثاني صلابة الموقف الإيراني تجاه ترامب، بحيث لا يبدو أن هناك مناورة تشوب هذا الموقف كما هو معتاد من إيران. ومن ثم، فمن حيث المبدأ، قد يؤدى هذا التأزم إلى لجوء ترامب للخيار العسكري ضد طهران-رغم عدم تفضيله له- لكنه قد يضطر إليه أو يتحفز له على خلفية انحيازه التام لإسرائيل خاصة النخبة اليمينية الحاكمة، وتراجع قوة إيران بعد تقويض وكلائها وأذرعها الرئيسية. بواعث التصلب الإيراني ومواطن قوته يعد البرنامج النووي الخط الأحمر الغامق لإيران، فطموحات إيران الإقليمية، وشرعية بقاء النظام تستند على البرنامج. ناهيك عن الأثمان المالية والبشرية والدبلوماسية الباهظة التي أهدرت لأجل البرنامج، وزد على ذلك، تواجه إيران أزمة خانقة بعد تدمير أهم وكلائها في المنطقة نظام بشار وحزب الله. إذن بعبارة مختصرة أصبح دفاع طهران عن برنامجها مسألة "حياة أو موت" فخسارة البرنامج تعنى خسارة كل شيء تقريبا. أبدت طهران منذ إدارة أوباما رغبة في التفاوض على البرنامج النووي، وأعلن الرئيس الإيراني مؤخرا أيضا عدم ممانعة إيران من التفاوض لكن ليس تحت الضغط، وعلى إثر ذلك أبرمت الاتفاق النووي مع واشنطن في 2015، الذى انسحب منه ترامب في ولايته الأولى. لكن نلاحظ هنا أن تفاوض طهران عن البرنامج أو وفق شروطها لا يعنى التخلي التام عنه، أو تدميره، بل تجميده موقتا، وتحديدا إيقاف التقدم في صنع القنبلة النووية في ظل وضع مراقبة دولية ليس صارماً بالقدر الكافي. وتتباين التفسيرات حول ذلك، إذ يرى كثيرون أن ذلك مجرد مناورة لتقوية طهران بعد فك العزلة وبعد ذلك ستقوم باستئناف نشاطاتها النووية، بينما يرى البعض الآخر عدم تخلى إيران عن ورقة النووي تحسباً لتبدل الظروف والمواقف مع رغبة حقيقية في تجميد نشاطها النووي والانخراط في المجتمع الدولي، بل وتقوية الشراكة مع واشنطن. بيد أن شروط تفاوض ترامب على النووي الإيراني تختلف كليا عن الموقف الأمريكي العام الرافض أساسا للحل العسكري، حيث يريد ترامب كما ذكرنا تدمير البرنامج النووي تماما مع وضع رقابة دولية شديدة الصرامة. وهذا ما يفسر قطعا بواعث التصلب الإيراني، وعلى الرغم من المأزق الإيراني الشديد لطهران المتجسد في إدارة عنيفة حاسمة غير مسبوقة، وضعف وضعها الإقليمي العام. فإنها لاتزال تتمتع بمواطن وأوراق قوة تسعى من خلالها للضغط على ترامب. ويأتي في مقدمتها تحالفها العسكري مع الصين وروسيا، وهو ما تجسد مؤخراً في المناورات المشتركة بالقرب من مواني طهران، والأخيرة لم تتأخر عن إرسال رسالة صريحة لترامب مفادها أن طهران ليست وحدها ضد تهديداتك العسكرية، فهي جزء من تحالف قوى سيدافع عنها. في أعقاب تهديدات ترامب، برز الحوثيون مجددا في المشهد مهددين بعودة استهداف الملاحة في البحر الأحمر على خلفية تعثر اتفاق تبادل الأسرى في غزة، وهو رسالة واضحة لترامب مفادها أن طهران ليس وحدها وسيطال الانتقام الحلفاء في الخليج. تمتلك إيران الكثير من أوراق الضغط في سوريا ولبنان وغيرها، كما تمتلك برنامج صواريخ باليستى متقدم تصل مداها إلى أكثر من 1700 متر، كشفت عن بعضها مؤخراً. في التقدير الأخير، إن لجوء ترامب للخيار العسكري ضد طهران ليس مستبعداً، لكن فيما يبدو ستكون التكلفة باهظة للغاية، مما يجعل ترامب يلجأ إليه بعد نفاد كل الصبر والوسائل مع طهران خاصة في ظل الإصرار على إنهاء الطموح النووي لإيران.
870
| 13 مارس 2025
يعد لقاء ترامب زيلنسكى الأخير في البيت الأبيض من الأحداث الفارقة في ذاكرة التاريخ، ليس فقط بسبب ما حدث فيه من مهزلة لم تشهدها العلاقات الدولية من قبل، حيث وجه ترامب لضيفه وابلا من الإهانات العنيفة على الهواء مباشرة ثم أمر بطرده من البيت الأبيض، واعلن عن إلغاء اتفاق المعادن؛ لكن أيضا شكل هذا اللقاء بحق مفترق طرق تاريخيا للتحالف عبر الأطلسي الذي يتشكل من الجناحين الأمريكي والأوروبي. أراد ترامب من لقائه بزيلنسكى موافقة الأخير على صفقة المعادن وإنهاء الحرب الأوكرانية، في حين أصر زيلنسكى على توافر ضمانات أمنية أمريكية لقاء صفقة المعادن، وهذا هو ملخص مهزلة البيت الأبيض. وعلى إثر ذلك، قد بدا ترامب تماما غير منشغل بمستقبل أوكرانيا وخطورة الطموحات الروسية، ولا الأمن الأوروبي، كل ما يعنيه الاستحواذ على المعادن كتعويض عن نفقات واشنطن في الحرب، والظهور أمام الرأي العام الأمريكي بالرجل القوى الذي استطاع إنهاء الحرب كما وعد، ولتذهب أوكرانيا بكاملها إلى الجحيم. كان من أبرز المفاجآت المدوية عقب هذا اللقاء، دعوة رئيس الوزراء البريطاني "ستارمر" زيلنسكى لزيارة لندن، وعقب لقائه معه أعلن عن دعم أوكرانيا بنحو مليار و 600 مليون لشراء نحو 5000 صاروخ. كما أعلن في هذا اللقاء عن تأسيس ما يسمى "تحالف الراغبين" لدعم أوكرانيا، وأشار إلى أن هناك عدة دول أوروبية كفرنسا والسويد والدنمارك على استعداد للانضمام للتحالف ودعم أوكرانيا في حربها مع موسكو. إذ من المعروف أن السياسة البريطانية تسير على نغمة واحدة أو متطابقة مع السياسة الأمريكية، وعادة ما تغرد خارج السرب الأوروبي، والأغرب من ذلك أن ستارمر المحافظ يتمتع بعلاقة وثيقة مع ترامب. وفى غضون أيام قليلة من هذا اللقاء، قال المستشار الألماني شولتز، والرئيس الفرنسي ماكرون في تصريحات صحفية منفصلة يجب على أوروبا الاعتماد عن نفسها. وفي سياق ذلك أيضا، قالت "أورسولا فون دير" رئيسة المفوضية الأوروبية، يجب دعم قوة أوكرانيا، كما يجب على أوروبا تعزيز قوتها الدفاعية بصورة عاجلة. * مثلما كانت الحرب الأوكرانية فرصة قوية لترميم التوتر الأوروبي بعد جائحة كورونا، والاصطفاف القوي لمواجهة الخطر الروسي، مثل لقاء البيت الأبيض فرصة أقوى لأوروبا لتوطيد الاصطفاف وهذه المرة بقيادة بريطانيا التي توصف سياستها الخارجية بالتبعية لواشنطن. إذ من الجلي أن أوروبا بصدد الوقوف بمفردها ودعم كل قوتها لمواجهة روسيا بمفردها بعد تبينها الواضح من نوايا وأهداف ترامب. والواقع أن أوروبا في مازق شديد؛ إذ أن إبرام صفقة هزيلة بين ترامب وبوتين على أوكرانيا سيعرض امنها لخطر محدق. فأوروبا لا تثق ببوتين ولديها شكوك حول نواياه بإعادة أمجاد السوفيتية على الأقل بالهيمنة على دول أوروبا الشرقية. ومن ناحية أخرى، ترى أوروبا أن خطتها التي نفذتها منذ اليوم الأول للحرب عبر الدعم العسكري المستمر لأوكرانيا كادت أن تجنى ثمارها من خلال إضعاف روسيا وإجبارها على تقديم تنازلات كثيرة، ناهيك عن المليارات التي أنفقت على هذا الدعم، مقابل لا شيء إذا نجح ترامب في إبرام صفقة مع بوتين. وعلى هذا الأساس، فالتحدي الأوروبي لترامب والمفاجأة بقيادة بريطانيا هذه المرة ليس مستغرباً، حيث باتت أوروبا برمتها تواجه خطرا شبه وجودي يستلزم التصرف بأي شكل لتقويضه؛ أي الاستمرار في دعم أوكرانيا عسكرياً ضد رغبة ترامب، وفي الخلفية الأكبر العمل الجاد على تقوية القوة العسكرية الأوروبية تمهيدا لتأسيس جيش أوروبي موحد بديلا عن الناتو الذي تتحكم فيه واشنطن. * وفي التقدير الأخير، يعي القادة الأوروبيون منذ إدارة الرئيس أوباما أن الاعتماد التقليدي التام على مظلة الحماية الأمريكية لأوروبا قد باتت محل شك كبير، وذلك على خلفية انشغال واشنطن بالتحدي الصيني الأخطر. ومع ذلك، كانت فيما يبدو تعيش أوروبا على ثقافة التمني بأن واشنطن من المستحيل أن تتخلى تماما عنها، وهذا ما حدث بالفعل من خلال دعم إدارة بايدن القوي لأوكرانيا لكن-دون تدخل عسكري- وهو ما فاقم شكوك الأوروبيين حول الحماية الأمريكية. لكن لقاء ترامب الأخير في البيت الأبيض قد أيقظ الأوروبيين من غفوة ثقافة التمني تلك، فالمسألة لهم لم تعد التحدي الصيني فحسب، بل في التوجه الانعزالي والالتفاف حول المصالح الأمريكية الضيقة فقط المتنامي بشدة في الداخل الأمريكي والذي دفع بترامب لتحقيق انتصار تاريخي في الانتخابات الرئاسية السابقة. وعلى ذلك، يتبدى أن الانشقاق الأطلسي العظيم قد بدأ للتو ولم يعد كما كان مطلقاً.
678
| 09 مارس 2025
تصدر «الحزب المسيحي الديمقراطي» بقيادة «فريدريش ميرتس» نتائج الانتخابات البرلمانية الألمانية الأخيرة بنتيجة 28 %، بينما حل حزب «البديل من أجل ألمانيا» في المركز الثاني بنتيجة 20 % تعد الأفضل في تاريخه، وفى المركز الثالث «الحزب الاشتراكي» بقيادة المستشار الحالي «شولتز» بنتيجة 16 %. وبهذه النتيجة قد أصبح شبه مؤكد أن «ميرتس» مستشار ألمانيا القادم، لكن تبقى الإشكالية مع من سيتحالف لتشكيل الحكومة القادمة. والمتابع للشأن الأوروبي خلال العقد الماضي، سيرى أن نتائج الانتخابات الألمانية ليست مفاجئة على الإطلاق-عكس ما يشاع إعلاميا بأنها مفاجئة - بما في ذلك الانتصار التاريخي الذي حققه البديل من أجل ألمانيا. وبهذه النتيجة يمكن القول إن ألمانيا قد أصبحت في قبضة اليمين، كما تمهد بلا أدنى مواربة لمزيد من هيمنة اليمين خاصة المتطرف في الأجل القصير. على الرغم من أن الحزب المسيحي الديمقراطي الفائز لا يصنف في خانة اليمين المتطرف، وأعلن عدم تحالفه مع البديل من أجل ألمانيا لتشكيل الحكومة، كما أعلن مراراً اختلافه مع اليمين المتطرف. فإنه من جهة لا تتباين أفكاره كثيراً مع اليمين المتطرف. ومن جهة أخرى، استنسخ ككل الأحزاب الأوروبية بكافة أطيافها أفكار وخطاب اليمين المتطرف في كثير من القضايا خاصة الهجرة والاقتصاد وبعض قضايا السياسة الخارجية خاصة الصراع العربي الإسرائيلي. ولعل الاختلاف فقط بين اليمين بصفة عامة واليمين المتطرف يدور حول قضايا هامشية مثل التشكيك في أوروبا، ودعم أوكرانيا، والعلاقات مع روسيا. فيما عدا ذلك، قد طمست المسافة الفاصلة بين اليمين المتطرف واليمين الأوروبي بصورة شبه تامة. كحال كل أوروبا، صعد اليمين الألماني على خلفية أزمتين كبيرتين وهما أزمة الهجرة وتبعاتها خاصة تنامى التطرف، والأزمة الاقتصادية، وبطبيعة الحال يجد الناخب الأوروبي عادة الأحزاب التقليدية خاصة الاشتراكية عاجزة عن حل هاتين الأزمتين، والفشل الذريع لحزب شولتز خير مثال على ذلك. يرى خبراء اليمين المتطرف أن هيمنة اليمين المتطرف على ألمانيا تحديداً، سيقلب السياسة الأوروبية الداخلية والخارجية رأسا على عقب. فألمانيا تاريخيا كانت المحركة لمعظم الأحداث الأوروبية الكبرى حتى الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفى الوقت الراهن تعد القوى الاقتصادية الأوروبية الأولى، وتتقاسم مع فرنسا الهيمنة السياسية على أوروبا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد. أي بعبارة أخرى، تعد ألمانيا النموذج الأوروبي الملهم خاصة على صعيد الحراك والأفكار السياسية، مما يعنى أن الحالة الألمانية الراهنة تحت حكم اليمين المسيحي، ومعارضة قوية من قبل البديل من أجل ألمانيا، ستدفع باقي الدول الأوروبية إلى مزيد من صعود اليمين المتطرف. وستتبنى الحكومة الألمانية الجديدة سياسات داخلية متشددة، ستلقى صدى واسعا في أوروبا، خاصة على صعيد الهجرة أو التشدد في حق الهجرة واللجوء والطرد المكثف للمهاجرين، حيث أشار ميرتس عقب انتصاره إلى تبنى سياسات أكثر تشددا تجاه الهجرة، والتي تعنى ضمنياً طرد المشتبه في تبنيه أفكارا متشددة، أو سحب الجنسية عنه، لاسيما في ضوء تنامى حالات الطعن في الأشهر الأخيرة والتي ساهمت في الفوز التاريخي لليمين المسيحي والمتطرف. وهذا بالقطع سيؤدى إلى انتهاج إجراءات وسياسات ليست ديمقراطية، ومخالفة لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى تنامى مناخ التعصب والعنصرية خاصة تجاه مسلمي ألمانيا. فإن كان الحزب المسيحي يزعم رفضه لذلك، فإن انتصاره الساحق مع اليمين المتطرف؛ يعكس تنامى هذا المناخ المتطرف في ألمانيا، فبحسب وزارة الداخلية الألمانية تجاوزت جرائم الكراهية والعنصرية خاصة ضد المسلمين في ألمانيا نحو 500 جريمة في عامي 2023 و2024. وستنعكس هيمنة اليمين الألماني على السياسة الألمانية في بعض القضايا الرئيسية، حيث ستصبح أكثر تعسفاً تجاه الاتحاد الأوروبي، حيث يتطلع اليمين إلى دور مستقل سياسياً وعسكرياً. كما ستنعكس على سياسة ألمانيا التقليدية تجاه الشرق الأوسط خاصة النزوح نحو الدعم المطلق لإسرائيل، حيث صرح ميرتس في أكثر من مناسبة بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها في غزة ضد الإرهاب. وفى التقدير الأخير، سقوط ألمانيا في قبضة اليمين ليس حدثاً عاديا، بل يؤشر لتداعيات خطيرة. حيث ستدفع أوروبا برمتها إلى هيمنة مطلقة لليمين المتطرف خلال العقد القادم بحسبان أن ألمانيا كانت الحصن المنيع أمام اليمين المتطرف الذي يحكم في دول أوروبية كثيرة منذ أكثر من عقد، وبالتالي، ستعصف بالديمقراطية الأوروبية الراسخة، وعلى الأرجح الاتحاد الأوروبي الذي يعانى من هشاشة كبيرة. علاوة على ذلك، ستدعم ألمانيا بقوة عصر الاستبداد العالمي الجديد الذي تقوده الترامبية الشعبوية في أمريكا.
792
| 02 مارس 2025
تعد مسألة تفكيك الدولة العميقة كما جاهر ترامب بذلك مراراً وتكرراً من أهم المسائل التي تشغل بال السياسيين والكتاب الأمريكيين، نظراً لغرابتها وكيفية تنفيذها وخطورتها أيضا. ويعد عداء ترامب الشديد لما يسمى «الدولة العميقة» ليس جديدا، حيث أشار إليها خلال ولايته الأولى، بينما في الثانية قد عقد العزم على تفكيك بات لها. ما هي الدولة الأمريكية العميقة؟ إحدى أكبر المغالطات الشائعة والتي يقع فيها حتى الكثير من المتخصصين في حقل العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بناء تحليلات وتصورات استنادا إلى مصطلح الدولة العميقة؛ فالمصطلح-رغم شيوعه الذائع- غير علمي وغير دقيق بالمرة، ولم يرد في أية موسوعة سياسية حتى الآن. وبعيدا عن أسباب التداول الواسع للمصطلح دون أساس علمي، أصبح المصطلح فيما يبدو اختصاراً أو كناية عن مجموعة المؤسسات والقواعد والبيروقراطية الراسخة أو العتيقة في الدولة، والتي بدورها تلعب دورا ما، أو تؤثر بصورة ما على صانع القرار والسياسة العامة للدولة الداخلية والخارجية. وعلى هذا القياس، فالمقصود بالدولة الأمريكية العميقة البنية البيروقراطية الفيدرالية وما تشمله من مؤسسات وموظفين وخبراء وقواعد وأعراف. لماذا يكن ترامب عداء شديدا للدولة العميقة؟ على الرغم من التقارب الفكري والإيديولوجي لمعظم ما يسمى حركات وتيارات ما بعد الديمقراطية، وأبرزهم اليمين المتطرف، والشعبويين، والفوضويين، والنازيين الجدد...وغيرهم. فإن الشعبويين لهم خصلة واحدة فريدة تميزهم عن غيرهم وهي العداء الشديد للنظام المؤسسي القائم وقواعده حتى ولو كانت ديمقراطية. يصعد الشعبويون بصورة ديمقراطية عبر تلك المؤسسات الراسخة؛ لكنهم يعملون بشكل منهجي على تدمير هذا النظام المؤسسي، وبناء تصور جديد للدولة، لتحقيق مآربهم التي لا تتمايز عن مآرب جميع تيارات ما بعد الديمقراطية. وبناء عليه، يرى ترامب أن النظام المؤسسي الأمريكي القائم بجميع أركانه وقواعده، عائق كبير أمام تحقيق أجندته المتطرفة. فالقضاء على سبيل المثال، يقف دائما له بالمرصاد أمام قوانينه حول الهجرة، والكونجرس حول المساعدات الخارجية. ومن جانب آخر، لدى ترامب نزعة سلطوية غير خافية حيث ابدى إعجابه مراراً بزعماء سلطويين حول العالم. ومن ثم، يرى أن تفكيك الدولة العميقة سيعزز سلطته على البلاد، وتنفيذ أفكاره وسياساته البعيدة كليا عن نمط السياسة الأمريكية التقليدية. هناك من يرى أيضا أن ترامب يسعى للانتقام من أعدائه داخل هذه الدولة العميقة خاصة مما يعتقد أنه كان السبب في هزيمته في الانتخابات السابقة، وغير المؤيدين له. فتلك الدولة العميقة تعج بالديمقراطيين. خطة ترامب لتفكيك الدولة العميقة وتحدياتها بدأت خطة ترامب مبكراً أو قبل انتخابه رسمياً من خلال ترشيح «إيلون ماسك» لمنصب جديد غير معهود وهو منصب «وزير الكفاءة الحكومية»، وكان هدف، بحسب المعلن، هذه الوزارة الجديدة إدخال تحسينات شاملة في الجهاز الإداري للدولة، خاصة العمل على وقف إهدار النفقات غير الضرورية، والحد من البيروقراطية الحكومية أو الفيدرالية. وقد تأكدت الشكوك فيما بعد بأن مرمى الوزارة الحقيقي هو التخلص من الآلاف من الموظفين الفيدراليين، كخطوة أولى لتفكيك الدولة العميقة. إذ لم يمر شهر على ولايته، حتى أعلن ترامب عن قرار بتسريح أكثر من 75 ألف موظف اتحادي بحجة توفير النفقات، وسوء الأداء. وفي سياق ذلك، صرح إيلون ماسك أن تقليص الجهاز الفيدرالي بات ضرورياً لحماية أمريكا من الإفلاس. وفيما بعد أعلن ترامب عن نوايا لطرد آلاف أخرى من الموظفين في وزارات الطاقة، والصحة، والأعمال، وهيئة السلامة النووية وغيرهم. إذ يقدر عدد الموظفين المرجح تسريحهم خلال السنة الأولى لترامب بنحو 200 ألف موظف. وقد ترافق مع خطة التسريح الجماعي، إعلان ترامب عن نواياه بإلغاء وزارة التعليم الأمريكية بحجة تراجع التعليم رغم النفقات الباهظة المخصصة له. إن مخطط التسريح الجماعي الذي أصبح العنوان الرئيسي لتفكيك الدولة العميقة لن يتوقف بالقطع، حيث سيفاجئنا ترامب كل أسبوع بموجة تسريح جديدة، وإنهاء هيئات قائمة. حتى تحين الفرصة الملائمة وهي قريبا، ليطال التفكيك أهم المؤسسات الأمريكية قاطبة خاصة القضاء، وهو أهم ما يهدف إليه ترامب. وهنا سيواجه ترامب التحدي الأصعب، فهو يرمي إلى تقويض هذه المؤسسات وبالتحديد الخارجية والقضاء والبنتاجون، وتكديسها بموالين له. إلا أنه سيصدم بعقبات لا حصر لها، أهمها الدستور الأمريكي نفسه الذي يعد من المستحيل تغييره، وكما سيواجه بمعارضين داخل الحزب الجمهوري نفسه، وربما معارضة من مستشاريه، لما سيؤدي ذلك إلى تداعيات ستقلب السياسة الأمريكية الداخلية والخارجية رأسا على عقب. فتحدي القضاء الأمريكي الراسخ ليس بالأمر السهل على الإطلاق. خطورة تفكيك الدولة الأمريكية العميقة ينطوي التفكيك على مخاطر لا حصر لها، سنذكر بعضا منها على الأقل على المدى القريب: - تعزيز السلطوية الشعبوية لترامب على حساب الديمقراطية - حرمان الولايات المتحدة من أبرز الكفاءات في الجهاز الإداري، مما سيضعف الدولة - تنامي الانقسام الأمريكي الذي يعد أخطر تهديد يواجه الولايات المتحدة
1020
| 24 فبراير 2025
قد أمسى من المسلم به أن الهيمنة الأحادية الأمريكية على العالم تعيش فصلها الأخير وليس الآن بل منذ الأزمة المالية العالمية 2008، وسط اعتراض قلة محدودة من المتخصصين على ذلك. ورغم علم الإدارات الأمريكية السابقة لترامب بذلك علم اليقين؛ ومع ذلك سعت جاهدة للمحافظة على هذه الهيمنة - إذ لا يمكن أن تتخلى قوى مهيمنة عن هيمنتها بسهولة - لكن عبر انتهاج سياسات وتكتيكات مختلفة، على رأسها حشد التحالفات الدولية، والتركيز على التفوق التكنولوجي، والحفاظ على الدور القيمي للولايات المتحدة في العالم من خلال قيادة المبادرة في بعض القضايا خاصة التغير المناخي. وبالقطع من المستحيل أن تستمر الهيمنة الأمريكية المطلقة عبر هذه السياسات، فالهيمنة الأحادية أو القطبية الأحادية استثنائية الطبع في النظام الدولي، أو وضع غير اعتيادي لن يدوم طويلا هذا من جانب. ومن جانب آخر تعد الأحادية الأمريكية استثناء خاصا برزت في ظل ظروف خاصة استثنائية في النظام الدولي، حيث انهار كل المنافسين في وقت واحد تقريبا. ومن جانب ثالث وهو الأهم، أن النظام الدولي قد أمسى متعدد الأقطاب ولن يعود للوراء بأي حال من الأحوال. لكن بغض النظر عن تصور الولايات المتحدة بإمكانية استدامة الهيمنة الأمريكية عبر تلك السياسات، وهو تصور خاطئ بالقطع. فإن تلك السياسات من شأنها الحفاظ على القوة الأمريكية إلى أطول مدى زمني ممكن، أو بعبارة أخرى عدم التسريع في إعلان الأفول الرسمي للهيمنة الأمريكية. ويقدم المقال تقديرا للكيفية التي يعجل بها ترامب من أفول الهيمنة الأمريكية من خلال التركيز على الحرب التجارية وسياسة الهجرة. رغم إصرار ترامب على شعاره «جعل أمريكا عظيمة مجددا»، لكنه في المجمل العام يتبنى نهجاً في السياسة الخارجية تحديدا يتمحور حول الانعزالية، والانفرادية، ومنطق الصفقات التجارية، وغطرسة القوة المفرطة، منافيا تماما لذلك الشعار. وتعكس الحرب التجارية، وسياسة الهجرة العنيفة ذروة النهج الخاص لترامب وعقيدة الشخصية أيضا. دشن ترامب مصطلح الحرب التجارية في قاموس السياسة الأمريكية، العالم. بدأت الحرب التجارية لترامب في ولايته الأولى كان المستهدف منها بالأساس الصين، لكنها عكست تصور ترامب العالم للاقتصاد الأمريكي والقوة الأمريكية عامة. إذ يرى ترامب أن الاقتصاد الأمريكي قد تدمر جراء عدم الحمائية التجارية الناجمة بالأساس من الاعتماد التجاري المتبادل والعولمة. وفى ولايته الحالية، قام مؤخراً بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 % على جميع واردات الولايات المتحدة من الحديد والألومنيوم، ولم يستثن دولة واحدة، إضافة إلى فرض رسوم بنسبة 10 % على جميع واردات الصين. تعكس الحرب التجارية قصر نظر فادحا لترامب وداعمي الحرب التجارية. إذ على المدى القصير لا شك أنها ستجلب مليارات الدولارات للخزانة الأمريكية. لكن التداعيات على المدى المتوسط والطويل شديدة الخطورة على الاقتصاد الأمريكي، والدور الاقتصادي العالمي لواشنطن، ودورها الريادي العالمي أيضا. ستجلب الرسوم الجمركية مليارات الدولارات للولايات المتحدة، لكنها في المقابل ستؤدى إلى موجة تضخمية عنيفة، وخلق مناخ سلبي طارد لمجتمع الأعمال. وذلك ببساطة لأن الولايات المتحدة تعتمد على الأسواق الخارجية بنسبة تناهز 80 % سواء في المنتجات العادية، أو مستلزمات الإنتاج والتشغيل، خاصة من الدول الثلاث التي كانت بؤرة تركيز الحرب التجارية: الصين، كندا، والمكسيك. وعلى نحو آخر، تمثل الحرب التجارية العنيفة لترامب عداء صريحا لنظام التجارة العالمي ومن خلفه العولمة الاقتصادية الداعمة له، مما سيقوض الهيمنة الاقتصادية الأمريكية التي لا تزال تحتفظ بها عبر قوة الدولار وتشجيع تحرير الأسواق والتجارة، فالعولمة بالأساس حركة منتجة ومدفوعة بواسطة الولايات المتحدة. ومن المحتم أن يكون نتاج ذلك، تعزيز النظم العالمية الناشئة للاقتصاد خاصة النظام الصيني الأكثر موضوعية وعدالة، ذات التصورات المختلفة للعولمة وتحرير التجارة العالمية، والمتجسد في مجموعة البريكس. وعلى نطاق آخر، ستدمر الحرب التجارية التحالفات الأمريكية خاصة مع حلفائها التاريخيين عبر الأطلسي، فتضرر الحلفاء الشديد من الحرب التجارية في ظل التدهور الاقتصادي لهم، وفى ظل أيضا العداء الترامبى الانعزالي للحلفاء؛ سيدفعهم حتما إلى فك الارتباط التاريخي مع واشنطن نظير الالتفاف نحو الخصوم خاصة الصين. والتصريحات الألمانية الفرنسية منذ تولى ترامب توحي على نحو كبير بذلك. يعد ضبط سياسة الهجرة حقا سياديا لأي دولة، ونهج ترامب العام للهجرة لا يجانبه الصواب، إذ من غير المعقول أن تكون أمريكا مرتعا سهلا لتدفق عشرات الآلاف من أمريكا الجنوبية سنويا. لكن تكمن خطورة سياسة ترامب في تطرفها الشديد، والتي تنم عن شيفونية متطرفة ضد الأجانب، أكثر من كونها توجها لضبط الهجرة. تعد أمريكا دولة مهاجرين بالأساس، وقدم المهاجرون-غير الأنجلوساكسون- خدمات عظيمة لأمريكا، فأغلب حائزي جائزة نوبل من الأمريكيين مهاجرون من بينهم من أصول صينية وأصول مسلمة. ولا يزال المهاجرون يشكلون قوى مهمة للأمة الأمريكية، وعاملا رئيسيا للتفوق الأمريكي العالمي عبر تشجيع قدوم المهاجرين ذوي الكفاءة العالية من كافة أنحاء العالم. وهنا تكمن خطورة سياسة ترامب المتطرفة في الهجرة، حيث تنطلق من منطلق إقصائي، ستؤدى بدورها إلى حرمان الولايات المتحدة من أكفأ المهارات العملية والعلمية في العالم التي تستغلها واشنطن لتعزيز تفوقها، خاصة من العالم الإسلامي، وجنوب شرق آسيا.
723
| 17 فبراير 2025
في خضم ذروة زهو ترامب بقوته وسياسته الجديدة التي يريد بها تغيير العالم، أحدثت الصين صدمة عالمية مدوية - نظن أنها كانت معدة سلفاً، وليست عشوائية- بإصدار تطبيق «ديب سيك» للذكاء الاصطناعي الذى يحاكى عمل «تشات جى بى تى» التطبيق الأشهر في العالم. وهى صدمة بكافة المقاييس نظراً للتكلفة الزهيدة للتطبيق، ولأدائه وسرعته التي تفوق خمسة أضعاف كل نظائره، وإتاحته بصورة مجانية للعالم. لكن لعل الصدمة الكبرى كانت انفجار فقاعة التفوق لترامب أولاً، والتكنولوجيا الأمريكية ثانيا، أمام العالم في غضون ساعات دون سابق إنذار. إذ من المعروف أن التكنولوجيا هي من الأذرع القليلة التي ما زالت متبقية في يد الولايات المتحدة لتأكيد تفوقها العالمي، بعد انسحاب بساط التفوق في مجالات عديدة إلى أرجل الخصوم. وإن كانت الصين فيما يبدو أرادت توصيل رسالة مباشرة لترامب مفادها بأن الحرب التجارية والتكنولوجية الساحقة التي عزم إعلانها على الصين لن تجدى نفعاً ومن الأفضل للقوتين الحوار والتفاوض. فالحرب التكنولوجية التي فرضها على الصين في ولايته الأولى، قد أفادت الصين حيث أعلنت عن خطة صنع في الصين 2050 والتي ارتكزت على تلبية الاعتماد الذاتي في المجال التكنولوجي خاصة أشباه الموصلات، وقد تمخض عن ذلك «ديب سيك». ومع ذلك، تتبدى في الأفق الدلالة الاستراتيجية الأخطر من ديب سيك وهى استحالة استمرار شارة التفوق التكنولوجي في يد أحد لاسيما قوى كبرى. ولعل ذلك ليس بالجديد في حد ذاته، فمئات «الهاكرز» من المراهقين قد استطاعوا في السابق اختراق أصعب الأنظمة التكنولوجية تحصيناً مثل البنتاجون، واكتشاف ثغرات فادحة في أشهر التطبيقات العالمية مثل فيسبوك. لكن ربما الجديد في هذه الواقعة يتعلق بالذكاء الاصطناعي، فبكلفة زهيدة ووقت قياسي وبأنظمة بسيطة، خرج إلى النور «ديب سيك»، في حين تنفق شركات الذكاء الاصطناعي الأمريكية مئات المليارات سنويا على تطوير برامج وتقنيات ينتهى بريقها في غضون ستة أشهر من خلال تطبيقات أحدث. فالخطير في الأمر أن الذكاء الاصطناعي ذاته قد سهل على جميع تطوير تقنيات فائقة الدقة والسرعة، دون الحاجة إلى تكلفة باهظة، بل مجرد تمكن في المعرفة وإلهام فكرى وهذا قد يكون عبر مراهق أو إرهابي أو هاكر يسعى للتجسس أو السرقة. ولعل هذه النتيجة قد تدفع القوتين خاصة الولايات المتحدة إلى تكثيف التعاون للتصدي لمخاطر الذكاء الاصطناعي الكارثية. لكن فيما يبدو أن ذلك لم يحدث، حيث سيستبد العناد والتحدي من الطرفين خاصة من واشنطن، ففور ظهور التطبيق أعلن ترامب عن استثمارات بنحو بنصف مليار دولار في الذكاء الاصطناعي. والتفوق في مجال الذكاء الاصطناعي- رغم مخاطره- أصبح ضرورة حتمية للتفوق الشامل للدول خاصة في المجال العسكري، فتقنيات الذكاء الاصطناعي تدفع جميع المجالات المعتمدة عليه لخطوات هائلة للأمام وهذا أمر محمود ولا يمكن النكوص عنه. لكن مع ذلك، سيدفع التنافس الاستراتيجي العالمي خاصة بين واشنطن وبكين إلى مربع الصراع المرعب الذى قد يتحول إلى مسلح. فتطبيق ديب سيك لابد أن يزيد المخاوف والهواجس بشأن الصراع على المعرفة والتفوق والموارد اللازمة لتطوير الذكاء الاصطناعي.
840
| 09 فبراير 2025
أدلى الرئيس ترامب أثناء حملته الانتخابية، وفي خطاب التنصيب بتصريحات ووعود مثيرة كالعادة، لكن تصريحاته المباشرة أثناء حملته الانتخابية وإعادة التأكيد عليها في خطاب التنصيب بشأن إعادة استعادة قناة بنما، ناهيك عن وعود مباشرة باحتلال جرين لاند، وضم كندا لأمريكا، أصابت العالم كله بذهول، فهي غير متوقعة حقاً خاصة من رئيس يعد بالسلام. قناة بنما خاضعة للسيادة الكاملة لدولة بنما منذ عام 2000 وما قبل ذلك كان مجرد اتفاقات أمريكية مع حكومة بنما تسمح للولايات المتحدة بالإدارة المشتركة على القناة مع الإقرار بسيادة بنما على القناة. والقناة تعد ثاني أهم ممر ملاحي عالمي بعد قناة السويس، ويتجاوز دخل بنما من القناة قرابة الخمسة مليارات دولار سنوياً. بغض النظر عن كيفية إعادة ترامب بنما للسيادة الأمريكية باعتبارها حقا تاريخيا كما يقول؛ بنما أولوية تركيز رئيسية لإدارة ترامب، وصرح ترامب ضمنيا وعلانية لبواعث التركيز على بنما، وهي التصدي للسيطرة الصينية على بنما - كما يقول - والتخلص من الرسوم الجمركية السخيفة وغير العادلة على حد قوله المفروضة على السفن التجارية الأمريكية التي تمر عبر القناة، وتعد الولايات المتحدة أكبر مستخدم للقناة. هدد ترامب باستخدام القوة العسكرية لاستعادة القناة بصورة علانية أمام العالم، وهذا ما سبب جدلا واسعا حول جديته في تنفيذ ذلك. والواقع أن بواعث اهتمام ترامب بالقناة، ربما تؤكد على استعداده لذلك. واستخدام القوة العسكرية لضم بنما ليس بالأمر السهل على الإطلاق، فبخلاف كونها جريمة عدوان متكاملة، فمن المؤكد أن هذا العمل سيتحول إلى حرب عالمية ثالثة، أو بالأصح تشكيل تحالف عالمي بقيادة الصين وروسيا يضم أيضا دول أمريكا اللاتينية ضد الولايات المتحدة وحدها. هل ترامب ومستشاريه لا يعملون ذلك؟ بالقطع يعلمون مآلات هذا التصرف. إذن التهديد باستخدام القوة العسكرية، أو التهديد بضم القناة بصفة عامة ليس ببعيد عن نهج «سياسة حافة الهاوية» أو «سياسة الضغط القصوى» المفضل لترامب. وهو نهج اتبعه لعقود كرجل أعمال، وأشار إليه في كتابه الشهير «فن الصفقة»، ويستند على ممارسة أقصى ضغط على الخصم من أجل إخضاعه بالموافقة على مطالب أدنى هي التي يريدها بالفعل الطرف الضاغط. وبالقياس على ذلك، يتصور ترامب أن ممارسة حافة الهاوية على حكومة بنما، ستؤدي إلى تخفيض الرسوم الجمركية على التجارة الأمريكية كحد أدنى من الطموح، وفي الحد الأقصى للطموح، إبرام اتفاقية مع بنما من شأنها توسيع النفوذ الأمريكي على القناة بصورة ما، وإجبار بنما على تقليص تعاونها مع الصين. وبشأن الأخيرة ربما قد ارتأى ترامب أن توسع النفوذ الصيني في بنما نظراً لموقعها الإستراتيجي الحيوي، يمهد الطريق لتقويض النفوذ الأمريكي التقليدي في أمريكا الجنوبية، لاسيما في ضوء الشراكات الصينية الواسعة مع دول القارة الكبيرة، واجتياح اليسار المعادي لأمريكا القارة. خلاصة القول، نرى أن ترامب استنادا إلى عقيدته المناهضة لاستخدام القوة، والضعف العام الذي تمر به الولايات المتحدة، والخطورة الشديدة الناجمة عن ضم القناة بالقوة، غير قادر على ضم القناة بالقوة، إنما هو تكتيك حافة هاوية هدفه في نهاية المطاف محاولة فرض النفوذ الأمريكي التام على القناة.
951
| 27 يناير 2025
تزامن الوضع السوري الجديد بسقوط الأسد وتولى هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع السلطة فعليا، مع تولى إدارة أمريكية جديدة بقيادة ترامب. ولما كان الدور الأمريكي شديد الأهمية في أية قضية في العالم، ولسوريا الجديدة أمسى أكثر أهمية من ذي قبل؛ بات مستقبل السياسة الأمريكية تجاه سوريا في ظل إدارة ترامب مسار تكهنات متعددة. إذ بالإضافة إلى سياسة ترامب الثابتة تجاه سوريا التي تميل نحو التهميش، يواجه ترامب مجموعة من التحديات والأولويات الهامة والخطيرة خاصة ملف الاقتصاد والهجرة والصين والحرب الأوكرانية. الدور الأمريكي النشط في سوريا الجديدة حاسم ولا غنى عنه لعدة أسباب رئيسية، نذكر ثلاثة منهم، منح الشرعية الدولية الكافية للقيادة الجديدة ذات الخلفية الإسلامية، وتسهيل تدفق المساعدات المالية والاقتصادية لإعادة الإعمار وتنشيط الاقتصاد السوري، والثالث، عرقلة الأطراف الخارجية ذات الأجندات والأطماع المتضاربة من سوريا من إفساد الوضع السياسي الجديد. ومكمن المشكلة هنا أن ترامب فقط لا يعنيه مطلقا استقرار الوضع السوري من عدمه أسوة بالسابق وبدول أخرى خاصة ليبيا ذات الظروف المتشابهة، بل أيضا لديه حساسية شديدة في التعاطي مع حكومة ذات مرجعة إسلامية، بل ينظر ترامب إلى هيئة تحرير الشام وزعيمها الشرع على أنهم «إرهابيين» رغم اعتراف إدارة بايدن بالهيئة ورئيسها وشرعية الوضع العام الجديد في سوريا بصورة عامة، وإلغاء المكافأة الأمريكية بصورة رسمية التي كانت مرصودة للقبض على الشرع. وعلى بيان ذلك، ستشهد السياسة الأمريكية تجاه سوريا في المائة اليوم الأولى لولاية ترامب حالة من التهميش والتخبط في الوقت ذاته، خاصة وأن ترامب سيكون منهمكا في تحدى التعافي الاقتصادي وإنهاء الحرب الأوكرانية. لا تسير سياسة الدول على وتيرة واحدة- عدا الحفاظ على بعض الثواب الاستراتيجية المحدودة- حيث تتبدل بصورة جذرية توافقا أو تعارضا مع مصالح أو تهديدات جديدة. فضلا عن ذلك، تُجبر الدول على التعاطي مع الأمر الواقع حينما تستشعر أنه سيدوم لفترة. وهذا تحديدا ما سوف يجبر ترامب على إعادة مراجعة سياسته تجاه سوريا، أو منحها قدراً من الاهتمام، إذ سيصدم بوضع قائم في سوريا متجسداً في حكومة الشرع ذات الشرعية الداخلية والخارجية، حيث تتهافت عليها دول العالم لترتيب مصالحها في سوريا بما في ذلك جميع شركاء واشنطن. وعلى الجانب الآخر، هناك الكثير من المصالح والتهديدات أيضا نابعة من سوريا الجديدة ذات أهمية كبيرة للمصالح الأمريكية، وتتوافق مع رؤى وهواجس ترامب أيضا، وأقرب حلفائه خاصة إسرائيل، في الوقت عينه. الأولوية لترامب ستكون الهواجس، وعلى رأسها عدم عودة تنظيم داعش لسوريا، وتصفية الوجود الإيراني، ومنع سوريا بان تكون ساحة جديدة لمهاجمة إسرائيل. وإزاء وضع قائم مشروع ممثلا في حكومة الشرع، قد حددت بوضع هذه الهواجس كأولويات لها خاصة رفض تحويل سوريا كساحة لمهاجمة إسرائيل وعودة النشاطات الإرهابية؛ فلا مفر أمام ترامب سوى التنسيق مع حكومة الشرع، بل والضغط لدعمها دوليا دبلوماسيا وماليا، ولنا في طالبان أفغانستان عبرة. وعلى إثر ذلك أيضا، ليس من المستبعد موافقة ترامب على بقاء القوات الأمريكية في شمال سوريا. * تنشيط الدور الأمريكي في سوريا الجديدة من شأنه منع تغلغل النفوذ الصيني داخل سوريا، واستمرار الضغط على روسيا وتركيا تحديداً. وهذا في المجمل سيصب في صالح أولويات ترامب، تقويض القوى الصينية عالميا، إبعاد روسيا عن الصين وإنهاء الحرب الأوكرانية بالتصور الذى يريده وغالبا، تحجيم الدور التركي المنافس لإسرائيل والمهدد لأكراد سوريا. فضلا عن ذلك، تعد سوريا حاليا ساحة خصبة للشركات الأمريكية لجنى ملايين الدولارات من إعادة الإعمار، واستمرار الهيمنة الأمريكية على نفط سوريا المطوق بجنود الحماية الأمريكية في شمال سوريا، وهذا يتقاطع مباشرة مع رأس أولويات ترامب التعافي الاقتصادي الذى كان السبب الرئيسي لفوزه الكاسح في الانتخابات. * خلاصة القول، ينذر الوضع العام لسوريا الجديدة إلى دور أمريكي نشط نسبيا في ولاية ترامب الجديدة، دور لا مفر منه بسبب الفرص والتحديات التي تفرضها على مصالح أمريكا الاستراتيجية التي تتوافق معظمها مع أهواء وانحيازات ترامب شخصيا.
1125
| 19 يناير 2025
يمثل هاجس البقاء الأولوية الرئيسية للدول الصغيرة، فهي بسبب محدودية مقدراتها الوطنية، وافتقارها إلى عمق استراتيجي، في الأغلب الأعم غير قادرة على الدفاع عن نفسها ضد تهديدات خارجية من دول كبرى. وعادة أيضا عرضة لأطماع وتدخلات خارجية لا تنقطع. ومن ثم، تتبع عادة الدول الصغيرة استراتيجيات محددة أبرزها التحالف مع قوى كبرى لحماية بقائها وأمنها. فدول بحر الصين الجنوبي الصغيرة معظمها منخرط في تحالفات عسكرية مع الولايات المتحدة لحماية نفسها من الصين. تشهد التكنولوجيا العسكرية طفرة هائلة مطردة، وستشهد طفرة أخرى أكثر تقدما في ظل التنامي المطرد لتقنيات الذكاء الاصطناعي. وتلك الطفرة-وفقا للخبراء العسكريين والاستراتيجيين- ستقلب موازين القوة العسكرية رأسا على عقب. إذ من ضمن ما سوف تحدثه هو رفع الكفاءة الدفاعية والردعية للدول الصغيرة بصورة غير مسبوقة. بل ربما ستساهم في تغيير ميزان القوى العسكرية بين بعض الدول الصغيرة وجيرانها الأقوياء، لصالح الأولى. فالتطور التقني العسكري هو بمثابة أسلحة أو أدوات تعويضية للدول الصغيرة التي تفتقر بطبيعة الحال لعامل «الكم» لتكوين جيش كبير وقوي. إذ على سبيل المثال لا الحصر، تستطيع الدول الصغيرة تعويض نقص القوة البشرية أو قوة المشاة لديها عبر استخدام «الروبوتات المتقدمة المقاتلة» و «الطائرات دون طيار». وأحد الأمثلة الحديثة على ذلك كان عملية تفجيرات «أجهزة البيجر» التي نفذتها إسرائيل ضد حزب الله، والتي يراها الخبراء مؤشراً على بدء ما يسمى الجيل الخامس للحروب التي ستكون عبر الأسلحة التكنولوجية وفي إطار الفضاء التكنولوجي والسيبرانى. وربما الأهم من ذلك، أن استحواذ الدول الصغيرة على التقنيات التكنولوجية والمعلوماتية الفائقة، وتكيفها عسكريا واستراتيجيا عبر خطة محكمة؛ سيساهم في تعزيز قوتها الدفاعية والردعية ضد أعدائها الأقوياء، وتعويض افتقارها عن العمق الاستراتيجي. إذ مثلا عبر التوظيف الفعال لتقنيات الهجوم والمراقبة من عن بعد؛ تستطيع الدول الصغيرة شل الأنظمة الصاروخية لأعدائها، أو تدميرها. وأيضا عبر التقنيات المتطورة في الفضاء السيبرانى، تستطيع اختراق الأنظمة الدفاعية المحصنة لأعدائها وإفساد الخطط العسكرية أو نوايا الهجوم بصورة استباقية. وبالتالي، في إطار التطور التقني العسكري الفائق، أصبح التفوق يستند على الكيف أو المعيار النوعي، وليس «الكمي». فامتلاك دولة لأسطول محدود كهولندا والدنمارك لكنه مزود بأحدث التقنيات العسكرية، أكثر فاعلية وكفاءة من دول تمتلك أسطولا تقليديا يتكون من مئات السفن والبوارج الحربية. وبدأت عدة دول صغيرة مؤخراً الانتباه لتلك المسألة وفي مقدمتها سنغافورة التي قامت بعملية تحديث شامل لقوتها العسكرية منذ 2009 تستند على توظيف أحدث التكنولوجيات المتطورة، وفي 2023، اعتمدت خطة موسعة لتوظيف الذكاء الاصطناعي في كل أجهزتها العسكرية. تايوان أيضا وبمساندة قوية من الولايات المتحدة، تفطنت إلى فاعلية الاعتماد على أحدث التكنولوجيات المتطورة، كخيار رئيسي ضد أية مساع صينية لضم تايوان بالقوة. وربما تدرك تايوان أن هذا التوظيف لن يردع الصين القوية تماماً عن خططها لضم الجزيرة، لكنه سيرفع من كلفة هذا الضم بصورة فادحة، وربما ستتمكن تايوان من ضرب منشآت صينية حساسة من عن بعد. * خلاصة القول، سيقلب التطور التكنولوجي المطرد موازين القوة العسكرية رأسا على عقب، إذ أصبح التفوق العسكري مرهونا بمدى امتلاك التكنولوجيا المتقدمة وتطويرها بصورة مطردة، وليس بمدى امتلاك الأصول العسكرية التقليدية. ويتضح ذلك من الصراع المحتدم العنيف بين الدول الكبرى خاصة بين الصين والولايات المتحدة على التكنولوجيا. ومن ثم، قد اصبح بمقدور جميع الدول الصغيرة، لاسيما دول الخليج الغنية، تحقيق تفوق عسكري مطرد، وردع أعدائها بفاعلية عبر التركيز على التكنولوجيا المتقدمة وتوظيفها. وعليه أيضا، سيساهم ذلك في تخلص الدول الصغيرة من عبء الاستراتيجيات الأمنية التقليدية التي تنتقص من سيادتها وقرارها الخارجي.
972
| 12 يناير 2025
مساحة إعلانية
في الساعات المبكرة من صباح السبت، ومع أول...
4242
| 05 ديسمبر 2025
-«المتنبي» حاضراً في افتتاح «كأس العرب» - «أبو...
1971
| 07 ديسمبر 2025
فجعت محافل العلم والتعليم في بلاد الحرمين الشريفين...
1773
| 04 ديسمبر 2025
لم يدخل المنتخب الفلسطيني الميدان كفريق عابر، بل...
1428
| 06 ديسمبر 2025
تتجه أنظار الجماهير القطرية والعربية إلى استاد خليفة...
1164
| 04 ديسمبر 2025
مواجهات مثيرة تنطلق اليوم ضمن منافسات كأس العرب،...
1149
| 03 ديسمبر 2025
لم تعد الدوحة مجرد مدينة عربية عادية، بل...
906
| 03 ديسمبر 2025
عندما يصل شاب إلى منصب قيادي مبكرًا، فهذا...
729
| 09 ديسمبر 2025
أحياناً نمر بأسابيع تبدو عادية جداً، نكرر فيها...
663
| 05 ديسمبر 2025
تشهد الساحة الدولية اليوم تصاعدًا لافتًا في الخطابات...
639
| 04 ديسمبر 2025
حسناً.. الجاهل لا يخدع، ولا يلبس أثواب الحكمة،...
570
| 08 ديسمبر 2025
شهدت قطر مع بداية شهر ديسمبر الحالي 2025...
564
| 07 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية